حتى لو كانت قد استغرقت ثلاثة أرباع طاقتي أو عمري.
د. يوسف إدريس
نحن في حاجة إلى كمادات!
المناخ الفني والأدبي عامر بالتفاهات والأعمال المسلوقة والقيم المهدرة والزعيق والمدعين، وفي مثل ذلك الجو يموت الفن الحقيقي. وتتكفل مئات الدبابير بقتل النحل النادر المنتج. أما من شجاع واحد يقول كلمة الحق في هذه الضجة المحمومة؟
الحركة الفنية والأدبية تمر بفترة عصيبة لم تشهد لها بلادنا مثيلا في تاريخها. إنها في حالة حمى، درجة الحرارة مرتفعة لا من جودة الأعمال الفنية والأدبية، وإنما من شدة الزحام وعلو الضجة واختلاط الحابل بالنابل واندحار القيم. أي مخبر صحفي باستطاعته بين يوم وليلة أن يكون فنانا وكاتبا، ويقدم أعمالا للسينما والمسرح والإذاعة والتليفزيون. أي إنسان قرأ كتابا عن الإخراج باستطاعته أن يخرج أعمالا، فنية، يحتار في تقييمها النقاد. أي إنسان يفك الخط باستطاعته أن يؤلف أغنية تقبلها الإذاعة وتصبح من مختاراتها. أي مجموعة مقالات باستطاعتها أن تصبح كتابا محترما يناقشه النقاد في البرنامج الثاني وأعمدة النقد. أي بطل حلقات باستطاعته أن يؤلف قصصا ويضع نفسه على قدم المساواة مع شابلن. أي عازف باستطاعته أن يؤلف موسيقى تعزفها فرقة القاهرة السيمفونية. أي صاحب نجمة أو زوجها باستطاعته أن يكون ممثلا ونجما. وأي ممثل باستطاعته أن يكون مخرجا ومنتجا وأي قارئ لمقال عن الاشتراكية باستطاعته أن يكون كاتبا اشتراكيا. وأي كاتب يوميات باستطاعته أن يؤلف للمسرح والسينما والإذاعة. وأي عائد من الخارج باستطاعته أن يكون عبقريا ودكتورا في الإخراج. وأي إنسان باستطاعته أن يكون أي شيء في أربع وعشرين ساعة وربما أقل.
وأنا لا اعتراض لي على هذا كله ولا أطالب أبدا بإيقافه؛ فمن حق أي إنسان أن يعتقد أنه يصلح لأي عمل وأن يزاول هذا العمل بالطريقة التي تحلو له، بل نحن في حاجة إلى آلاف من الممثلين يجربون أنفسهم في الكتابة، وآلاف من الكتاب يجربون أنفسهم في التمثيل، وآلاف من نجوم الكرة يلعبون في البلاتوهات، وآلاف من مقدمي البرامج يصبحون مخرجين، وآلاف من الباعة الجائلين يحترفون الغناء ، وآلاف من راقصات الكباريهات يصبحن منتجات، وآلاف من المنتجين يزاولون الاقتباس والتأليف، كل هذا جائز بل وواجب؛ فمن حق أي مواطن أن يعتقد أنه فنان، وأن يفنن وأن يحاول أن يجد لفنه جمهورا.
أما الشيء الذي أعترض عليه حقيقة؛ الظاهرة التي جعلت من هذه الفوضى حمى ووصلت بوجداننا الفني إلى حد الهلوسة والتخريف، فهو موقف النقاد من هذا كله، أو بالأصح موقف الحركة النقدية؛ فالحركة النقدية في كل بلاد العالم تقف موقف الغرابيل والمناخل من الإنتاج والمنتجين. وهو موقف حيوي وخطير؛ فلولا الغرابيل والمناخل في المطاحن لأكل الناس الخبز مختلطا بالطوب والزلط والداتورة، ولأصيب الناس بالتسمم وعاش آخرون في حالة غيبوبة. إنها ظاهرة صحية هذه الكثرة من الإنتاج، هذه الرغبة في الفضفضة؛ فلقد عاش مجتمعنا أحقابا طويلة يكبت ويتقوقع على مشاكله وأمراضه وأوجاعه، وما يحدث الآن إن هو إلا محاولات لطرد هذه الأمراض والأورام إلى الخارج تمهيدا للتخلص منها وللتحرر من قبضتها ولتطهير جوف المجتمع. هي إذن ليست ظاهرة فنية ولكنها ظاهرة اجتماعية صحية، ولكن الكارثة الكبرى أنها تحدث على حساب فننا وأدبنا وقيمنا الثقافية، وقد نشفى بفضلها اجتماعيا لكي نمرض فنيا وثقافيا مرضا لا يقل خطورة عن المرض الاجتماعي؛ إذ إن هذه الإفرازات الاجتماعية التي تخرج متنكرة على هيئة «فن»، يعود المجتمع ويبتلعها بحكم حاجته إلى استهلاك الفن. وكأن المريض يعود لابتلاع طفحه المرضي.
لهذا كان لا بد للحركة النقدية أن تنشط نشاطا حادا متزايدا كي تلعب دور الرقابة الصحية الفنية، كي تميز الفن من اللافن، كي تغربل وتدقق وتشيد بالجيد وتحيل النفاية إلى أماكن حرق القمامة.
ولكن الحركة النقدية هي الأخرى وكأنما أصيبت بالعدوى؛ فقد امتد ادعاء التأليف إلى ادعاء النقد حتى أصبحنا كلنا نؤلف وننقد ونتعصب ونتظاهر ونصرخ ونتشنج وندوس القيم الفنية بأرجل الحاقدين أو أرجل المجاملين والمطيباتية، وكله عند العرب صابون، كله «شرب»، ولا مانع أن يصبح الشرب إسهالا وكوليرا ووباء يطيح بكل شيء، ماذا يهم ما دمت سأجامل بنقدي صديقا أو سأهاجم عدوا أو شخصا ثقيل الدم؟ وهل أنا كاتب قصة لأحرص على القصة أو كاتب مسرح لأفكر في مستقبل المسرح، أو مسئول عن صناعة السينما أو الإذاعة أو التليفزيون لأحرص على مستقبل هذه الأدوات؟
والنتيجة أننا حققنا نظرية الكم في العبقرية، فأصبح عندنا ألف كاتب عبقري، وألف مخرج عبقري، ممثل عبقري، وألف ناقد عبقري، ومليون كاتب، مخرج، ممثل، ناقد، صحفي، إذاعي، تليفزيوني، سينمائي، عبقري.
صفحة غير معروفة