وقد كانت مدائن الكنعانيين من أول الأمر على سواحل الخليج الفارسي في إقليم بلاد العرب المعروف الآن باسم «القطيف أو البحرين»، وفي سنة 2500ق.م تقريبا كانوا قد اضطروا للخروج من مساكنهم الأولية هذه، إما لداعي زلازل أرضية وقعت فأخرجتهم منها كما ذكر ببعض الروايات، وإما لداعي حروب حصلت بينهم وبين ملوك بابل، وكانوا قد انتصروا عليهم فيها فاضطروا للمهاجرة من أوطانهم الأصلية، وهاجروا كلهم منها إلى بلاد الشام، ولما استقروا بها تغلبوا على تلك البلاد ووضعوا اليد عليها، وتفرقوا هناك إلى فروع عدة؛ طوائف منهم مكثت ببلاد فلسطين، وبعضهم مكث بين جبل لبنان والبحر المتوسط، ومنهم قبيلة تعرف باسم «الهينيين» استقرت بوادي نهر العاص، وقسم أغار على مصر مسترشدا بجماعة من القوم «الهينيين» المذكورين واستولوا عليها، وهم المعروفون باسم أمة الهكسوس السابقة الذكر.
أما أمة الفنيقيين الموصوفة بالجراءة والنشاط وحب السفر لما رأت نفسها محصورة بين جبل لبنان والبحر الأبيض، وجهت همتها للملاحة والتجارة، فامتدت أسفارها لأقاصي العالم المعروف وقتئذ، وبهذا زادت ثروتها وقوتها حتى فاقت عن غيرها في الصنائع التي منها معرفة عمل الزجاج الذي أخذته هو وباقي معارفها من المصريين، وقد اشتهرت منسوجات الفنيقيين المصبوغة باللون القرمزي، كما وأنه ينسب إلى هذه الأمة اختراع فن الكتابة التي وصل منها إلى اليونان ، وقد اشتهرت مدن فنيقيا منها مدينة صيدا وصور. (4-1) مدينة صيدا
وبينما كان جماعة من الكنعانيين قد توجهوا نحو ديار مصر وفتحوها في ذلك العصر «ملوك الرعاة» قد كان من بقي من مدينة صيدا من الكنعانيين وهم المعبر عنهم بالصيداويين «أي سكان مدينة صيدا» يظهر أنهم لم يكن لهم أطماع حربية ولا رغبة جهادية في الأرض القارة، فلذلك انصرفت قوتهم وتجردت نشاطتهم وشهامتهم للتشبت بالأعمال البحرية، وقد مكثت «صيدا» في قبضة المصريين من العائلة الثامنة عشرة إلى العائلة المتممة للعشرين.
وفي عصر فرعون رمسيس الثالث ملك مصر أغار على فنيقيا قوم يعرفون بالقوم الفلسطينيين، وهم قوم كانوا قد خرجوا بطريق البحر من جزيرة «كريت»، وكان أول نزولهم على سواحل بر الشام نواحي «غزة» و«أشدود» و«عسقلان»، وبعد ذلك بنحو مائة سنة كانت قد اشتدت قوتهم، وامتدت شوكتهم حتى تعلقت أطماعهم بأن يستولوا على سائر بلاد سوريا الجنوبية وتجاروا على أن شنوا الغارة على بني إسرائيل ووقعت لهم عدة وقائع حربية كان لهم فيها النصر عليهم وبذلك استولوا على سائر بلاد بني إسرائيل، وأذاقوهم أشد الجور والظلم مدة أكثر من نصف قرن وفي سنة 1209ق.م قام أسطول من سفن الفلسطينيين المذكورين، ووقف على حين غفلة أمام مدينة صيدا ولم يكن عند أهلها استعداد لذلك، فنزلت السفن الفلسطينية على مدينة «صيدا» الفنيقية العظيمة هذه التي كانت بنت كنعان البكرية، وأخذوها بالقوة القهرية وأخربوها وأزالوها من ظهر الدنيا بالكلية، وهذا هو المسمى بعصر الصيداويين أي وقت أن كانت صيدا هي مركز قوة الفنيقيين. (4-2) مدينة صور
وقد كانت جموع الأقوام المهاجرين من أهل «صيدا» قد اجتمعوا في مدينة صور، وكانت هذه المدن لغاية ذلك الوقت من المدن ذات الدرجة الثانية من جملة المدن الفنيقية، وبواسطة هذه الحادثة تحولت حالها وتغيرت صفتها وارتقت حالتها دفعة واحدة، وبلغ عدد سكانها إلى أكثر من أضعاف ما كانوا عليه مرتين، وصارت هي الكرسي الأصلي والمركز السياسي لسائر المدن الفنيقية بعد أن كانت لهم هي المركز الديني فقط، وخلعت مدينة صيدا من كل ما كانت عليه من السعادة والرفاهية ودرجة الأعلوية وكان بها معبد بعل ملوخ (ميلكارت).
ذكر محالفة مدينة صور مع بني إسرائيل في سنة 1051ق.م
وقد كان نزول القوم الفلسطينيين المذكورين سببا في تبديل أحوال العلائق التي كانت بين بني إسرائيل والفنيقيين في ذلك الوقت، وذلك أن الإسرائيليين في أول مبادئ فتحهم لبلاد الشام كانوا أعداء للصيداويين، كما كانوا كذلك بالنسبة لسائر الأقوام الكنعانيين، ثم لما رأى بنو إسرائيل والفنيقيون أن القوم الفلسطينيين قد شنوا الغارة عليهم دفعة واحدة وظفروا بهم، فخوفا من أن يستولوا عليهم ويستعبدوهم استعبادا مخلدا تمكن في أذهان الطرفين شدة لزوم عقد محالفة بين الجانبين، وكان الملك «هرام» الثاني ملك صور معاصرا لسيدنا داود عليه السلام ملك اليهود، فبعث إليه رسلا من طرفه عقدوا معه عقد محبة بين الملكين المذكورين، ثم تفرغ الملك هرام إلى بناء الهياكل والمعابد والقصور بمدينة صور وغير ذلك، فبينما كان ملك صور المذكور مشتغلا بهذه الأعمال النافعة العظيمة؛ إذ توفي داود وخلفه على سرير الملك ولده سليمان عليهما السلام، فبادر ملك صور وهو هرام بأن بعث إلى القدس الشريف سفارة لقصد تهنئة ولد حليفه على تقليده بملك بني إسرائيل، وكان داود قد عهد قبل وفاته إلى ولده سليمان بأن يبني هيكل بيت المقدس لعبادة المولى سبحانه وتعالى، فطلب هرام لمساعدته، وتعاهدا على أن يعملا بمصاريف مشتركة، وذلك سنة 1018ق.م، ولما مات هرام المذكور خلفه ملوك لا فائدة في ذكرهم بالنسبة لعلم التاريخ. (4-3) تأسيس مدينة قرطاجة
ولما مات «ماتان» ثالث ملوك هذه العائلة كان قد خلف اثنين، أحدهما ذكر يبلغ من العمر 12 سنة يدعى باسم «بيجماليون»، والثاني أنثى كانت أكبر منه سنا تسمى «ألياسار»، وكان أبوهما قد عهد إليهما بالاشتراك في الحكم، وكان عوام الرعية يرغبون في تغيير صورة ولاية الأمر الفنيقية من هيئة الحكومة الملوكية ويبدلونها إلى هيئة دولة أهلية، فأثاروا فتنة داخلية، وولوا على سرير المملكة الصورية بيجماليون وحده دون أخته، واتخذوا له مجلس شورى من أرباب المناصب الدولية المساعدين على هيئة الدولة الأهلية، وبذلك خرجت أخته من حق المملكة، فما كان منها إلا أن تزوجت برئيس طائفة خدمة المعبود «ميلكارت» المدعو «زيشاربعل»، فقتله بيجماليون المذكور؛ إذ كان يرى أنه مزاحم له على سرير المملكة، فتعصبت «ألياسار» مع جم غفير على عزل أخيها، فقويت الفتن واشتدت المطاعنة للحصول على الغرض المذكور، فلم ينجح سعيهم بمدينة صور، فصمموا على الخروج من ديارهم الصورية استنكافا من أن يبقوا فيها تحت ذل العصبة الأهلية، واستولوا على السفن المتجهزة للإقلاع على حين غفلة، وركبوا فيها وسافروا في البحر تحت قيادة «ألياسار»، وساروا حتى نزلوا بساحل أفريقا، واختطوا هناك مدينة قرطاجة «لعلها الآن تونس»، وذلك سنة 869ق.م، وصارت هذه المدينة قرينة «روما» الكبيرة - كما سيأتي - وسميت «ألياسار» المذكورة باسم ديدون (أي الهاربة باللغة الفنيقية، ومعنى قرطاجة المدينة الجديدة).
وبعد ذلك استمر ملوك صور مدة من الزمن في حروب بينهم وبين ملوك آشور إلى أن وقعت فنيقيا وما جاورها من المدن في قبضة الآشوريين، أما مدينة صور بعد أن حاصرها بختنصر ملك بابل مدة 13 سنة ودمر جزءا منها، انتقلت على جزيرة صغيرة مجاورة للساحل، إلا أنها لم تقدر على إعادة مجدها القديم، ثم وقعت مملكة فنيقيا بعد ذلك في حوزة فرعون مصر «واح أبرع»، وبعده دخلت ضمن مملكة فارس أيام قمبيز ملك العجم. (4-4) الأراميون
كان الأراميون الذين هم من بني سام ساكنين من منذ الأزمان الغابرة شمال سوريا الممتدة من جبال لبنان لغاية نهر الفرات، ولم ير في التاريخ ما يدل على أنها انضمت إلى بعضها، بل بقيت فروعها متفرعة، كل فرع قائم بذاته، وسنقص بالذكر أشهر هذه الفروع؛ كان الخيتاسيون أحد فروعها، وهي التي تلفت من القوى أقصاها، ومن الصولة أعلاها، حتى اقتدرت بما لها من قوى وعزائم وجليل الهمم على مكافحة فرعون مصر خصوصا رمسيس الثاني صاحب الفتوحات الباهرة، ومن أشهر مدن سوريا مدينة دمشق التي بعد أن انفكت من أسر الإسرائيليين ارتقت إلى درجة سامية من العز حتى صارت قاعدة مملكة شهيرة لها شأن عظيم في التواريخ، ومع كل ذلك لم نجد نصوصا تاريخية تدل على أن بلاد سوريا توحدت فيها الكلمة، بل توالت عليها القرون وهي متجزئة بين ساكنيها، وهذا التفرق وعدم توحيد الكلمة بين أهلها أضعف شوكتها، وبذا لم تتمكن من مصادمة هجمات الفاتحين العديدين الذين ساروا بالتعاقب على بلاد سوريا الغربية على ممر الأعصار، وبعد أن تعاقب عليها المصريون والآشوريون والبابليون انتهى أمرها بالدخول ضمن مملكة الفرس، واشتهرت على من جاورها من الممالك. (5) في تاريخ العبرانيين
صفحة غير معروفة