التي لا يعترف بها الطرفان معا. (4)
ومن النقاط الجزئية التي لا ينبغي أن تفوتنا في هذا التحليل، الوضع الديني لأهم الممثلين العرب في حركة نقد الاستشراق. فأنور عبد الملك وإدوارد سعيد مسيحيان مقيمان في بلاد مسيحية، ومهاجران من أرض إسلامية. ومن المؤكد أن هناك اختلافا واضحا بين جيلهما وجيل المثقفين المسيحيين العرب السابق في الموقف من الحضارة الغربية. فجيل شبلي شميل وسلامة موسى كان يدافع عن الحضارة الغربية إلى حد التعرض للاتهام بممالأة الغرب. ولكن الجيل الذي نتناوله هنا بالبحث قد أثبت قدرا كبيرا من الموضوعية حتى قاد الهجوم على تصور الغرب للشرق والدفاع عن المجتمع والتاريخ الإسلامي. صحيح أنه يتحدث في معظم الأحيان عن «الإسلام الحضاري»، لا عن الإسلام كعقيدة، ولكن هذا هو المتوقع منه، لا لكونه مسيحيا فحسب، بل لكونه علمانيا قبل كل شيء. (5)
وأخيرا، فإن هذا التحليل النفسي الاجتماعي يؤدي بنا إلى عامل آخر ذي طابع أعم، يساعد إلى حد بعيد على تفسير حركة نقد الاستشراق بين العرب المتشبعين بالثقافة الغربية؛ فهم قد أكدوا ذاتهم علميا إلى الحد الذي يشعرون معه أنهم بلغوا سن النضج والاستقلال عن الغرب. وإذا كان شعار الجيل الذي سبقهم من العلمانيين بل ومن بعض أنصار المعسكر الديني هو أننا لا نستطيع أن نلحق بالغرب ثم نتفوق عليه إلا باقتباس أساليب حياته وفكره، فإن الجيل الحالي يشعر بأن هذه التجربة قد أخذت مداها، وأنه آن الأوان لإعلان الاستقلال الفكري عن الغرب، بحيث نكف عن أن نرى أنفسنا من خلال مرآته. بل إن الاتجاه إلى تأكيد الاستقلال يصل إلى حد إلقاء ظل من الشك على مناهج الفكر الغربية بوصفها جزءا لا يتجزأ من نزوع الغرب إلى السيطرة. إنها محاولة بطولية ولا شك. ولكنها، في ضوء النظرة الواقعية، تبدو كما لو كانت سابقة لأوانها، ويبدو أنها تسعى إلى حرق مراحل ما زال من الضروري أن نمر بها. والدليل على ذلك: (أ)
أن محاولة الاستقلال ذاتها تتم من خلال مصطلحات ومناهج غربية خالصة. فبدون الخلفية الثقافية الغربية القوية، كان من المستحيل أن تظهر الانتقادات التي يوجهها هؤلاء المثقفون العرب إلى الاستشراق وإلى الثقافة الغربية، من حيث دوافعها ومناهجها ومضامينها. وهكذا تظل هذه الدعوة إلى الاستقلال دائرة في نفس الفلك الذي تحاول أن تستقل عنه. (ب)
إن الاستقلال الحقيقي لا يتحقق إلا عن طريق الإتيان بالبديل. أو بعبارة أخرى: إن حركة نقد الاستشراق بين العرب المعاصرين لن تكون مقنعة كل الإقناع إلا إذا صاحبها قيام الثقافة العربية بملء الفراغ الذي كان يسده الاستشراق. ولكن الذي حدث حتى الآن هو أن الاستشراق قد انتقد من كافة الأطراف، دون أن تظهر حركة ناضجة تضمن استغناءنا عنه.
وهكذا تبدو حركة نقد الاستشراق هذه تعبيرا عن حلم النضوج المبكر في ثقافة تمر بأول مراحل الوعي الذاتي. ولكن الموقف الأنضج من ذلك في رأيي هو أن نعترف بحدودنا المعرفية ونبذل قصارى جهدنا من أجل تجاوزها، أي من أجل تقريب اليوم الذي يمكننا فيه أن نستقل برؤيتنا الخاصة لذاتنا، منهجا ومحتوى.
خاتمة
هكذا يبدو أنه، إذا كان الاستشراق قد اتهم ثقافتنا بأنها حالة من حالات النمو الموقوف
Arrested Development
فإن هذه الثقافة، رغبة منها في الرد على هذا الاتهام، قد سارت في طريق النمو المتسارع
صفحة غير معروفة