6
وهكذا يبدو أن المطلوب من المستشرق، لكي يتخلص من الاتهام بالتشويه، هو أن يقدم المعرفة في صورتها الخام، بلا توسط، وفي موضوعيتها المجردة. فهل هناك باحث يستطيع أن يقدم معرفة كهذه في مواجهته لحضارة أخرى؟ وهل مثل هذه المعرفة أصلا ممكنة في ميدان بحث الإنسان للإنسان؟ وهل سيكون هذا الشيء الهلامي الغامض مفيدا، حتى لو أمكن تقديمه في صورته الخام، بلا تفسير أو «توسط»؟
على أية حال، فمن الملفت للنظر أن الكاتب نفسه يؤكد استحالة الوصول إلى هذا الغرض الحيادي المطلق في ميدان المعرفة الإنسانية بوجه عام. فبعد أن يؤكد أن الغرب أساء تصوير الإسلام بصورة أساسية، يتساءل إن كان من الممكن قيام تصوير
Representation
صحيح لأي شيء، ويرى أن أي تصوير يخضع للغة القائم به وثقافته ومؤسساته وجوه السياسي، ويتم في ميدان يتحكم فيه تراث وتاريخ وجو عقلي لا يستطيع الباحث المنفرد أن يستقل عنه، وإن كان يسهم بالجديد فيه. وهكذا فإن أي بحث جديد يحدث قدرا من التغيير في ميدانه، ولكنه يساعد في الوقت نفسه على تثبيت هذا الميدان.
7
هذا الإدراك لفكرة مألوفة هي النسبية العقلية والثقافية، وتطبيقه على جميع الحالات التي يقوم فيها باحث ينتمي إلى ثقافة معينة بتصوير ثقافة أخرى، كفيل بأن يخفف إلى حد بعيد من غلواء الأحكام التي أطلقت من قبل على الاستشراق. فالمستشرق وفقا لهذا الرأي يخضع لنفس القيود التي يخضع لها عالم الاجتماع والناقد الأدبي والمؤرخ. ومن هنا كان «العظم» على حق حين أشار إلى فكرة النسبية هذه قائلا إنها تعفي الباحث الغربي من أية مسئولية عن التشويه المتعمد لصورة الشرق؛ لأنه بذلك إنما يستجيب لصفة تنتمي إلى طبيعة العقل نفسه، وهي أنه يحيل كل شيء يكون لنفسه تصورا عنه، إلى شيء ملائم له.
8
والفكرة التي نود أن ندافع عنها هي أن رؤية المثقف الذي ينتمي إلى حضارة معينة، لحضارة أخرى، هي رؤية تتم في ظروف بالغة التعقيد، ولا يمكن إخضاعها لذلك النمط الواحد الذي حاول «سعيد» أن يخضع لها الرؤية الاستشراقية، أعني نمط التشويه الذي يتم بدافع القوة والسيطرة والحماس بالتفوق. وسوف تتكشف لنا هذه الحقيقة خلال هذا البحث بالتدريج. (2)
يقع مؤلف كتاب «الاستشراق» في خطأ الانتقائية. فهو منذ مستهل كتابه يعترف بوضوح بأن قضيته الأساسية في الربط بين الاستشراق والإمبرالية تنصب على الاستشراق الفرنسي والإنجليزي، ثم الأمريكي في العهد القريب. وهو يعترف بأهمية الاستشراق الألماني والإيطالي والهولندي والسويسري (ونستطيع أن نضيف: الروسي والمجري والإسباني والفنلندي، ... إلخ)، ولكنه يرى أن أحكامه لا تنطبق على هذا النوع الأخير، الذي يستحق أن يكتب عنه بطريقة مستقلة. وهو في موضع آخر يؤكد أن النوع الأول، أي الإنجليزي والفرنسي، هو الأساس، وهو الذي يجمع بين الجوانب الثقافية والتجارية والاستعمارية والخيالية في مركب واحد. «إن وجهة نظري هي أن الاستشراق مستمد من تلك الصلة الوثيقة الخاصة التي تربط بين إنجلترا وفرنسا وبين الشرق، الذي كان يعني حتى نهاية القرن التاسع عشر الهند وأرض الكتاب المقدس فقط.»
صفحة غير معروفة