2
في هذا الإطار العام يمكن القول إن إ. سعيد قد جمع حول آرائه مدرسة كاملة في نقد الاستشراق، تطرح مجموعة من القضايا وتوجه إليها انتقاداتها لكونها مسلمات لا تتم مناقشتها، أو مغالطات صريحة، أو تعبيرا عن تحيزات ظاهرة، أو عن افتقار إلى شروط الموضوعية العلمية: (1)
فالاستشراق تأثر بتراث قديم انحدر إليه من تحيزات العصور الوسطى الأوروبية ضد الإسلام (وبخاصة نتيجة للعداء الدعوي بين الإسلام والمسيحية في الحروب الصليبية)، وهذا التراث كامن في كتابات المستشرقين بحيث يكون من الصعب عليهم إن لم يكن من المستحيل التخلص منه. (2)
وهو قد تأثر بالاعتبارات السياسية والنزوع إلى السيطرة، بحيث أصبح يعكس نظرة الغرب «القوي» إلى الشرق الضعيف. وهكذا كانت المقولات التي يستخدمها الاستشراق مقولات تتسم أساسا بالمركزية الأوروبية، وكانت نظرة إلى الشرق تستمد كلها من علاقة مفترضة بين هذا الشرق والغرب، ولا تتناول الشرق بوصفه كيانا مستقلا له تطوره الخاص. (3)
وهو يتحدث عن كيان ثابت باسم «الشرق»، أو «الإسلام»، ويضفي على هذا الكيان صفات متحجرة. أي إنه ينكر الشرق كدينامية وتاريخ، وينكر ما فيه من تعدد وتنوع، وإنما يجعل منه «جوهرا» غير قابل للنمو أو التغيير.
هذه الانتقادات، كما هو واضح، تثير مشكلات متعلقة بالمنهج، وبالأبستمولوجيا أو علم المعرفة من جهة، وبمضمون العلم الاستشراقي من جهة أخرى. وعلينا أن نسير في بحثنا للموضوع وفقا لهذا التقسيم، لا لكي نبحث في مدى صحة الاتهامات التي توجه إلى الاستشراق فحسب، بل لكي نختبر - وهو الأهم - موقف ناقدي الاستشراق أنفسهم، ونرى إلى أي حد كانت انتقاداتهم متسقة مع ذاتها.
المشكلات المنهجية والأبستمولوجية
يثير النقد السياسي والحضاري للاستشراق مشكلة الموضوعية في العلوم الإنسانية من خلال البحث في مدى نزاهة البحث الاستشراقي وحريته. فالبحث في الشرق، كما يرى أ. سعيد، لا يمكن أن يكون موضوعيا أو حرا؛ لأنه خاضع دائما لاعتبارات تبعده عن النزاهة، كالاستعلاء أو الرغبة في السيطرة أو التمركز الأوروبي حول الذات، فضلا عن تداخل الخيال والصور النمطية والاتجاهات النفسية الموروثة منذ العصور الوسطى الأوروبية. فهناك إذن تشويه أساسي في الاستشراق، بحيث إنه في حقيقته أقرب إلى أن يكون مظهرا للقوة التي تمارسها أوروبا والأطلسي على الشرق ، منه إلى أن يكون وصفا صادقا لأحوال الشرق.
3
فهو محاولة من علماء ينتمون إلى قوى كبرى ذات مصالح ضخمة، من أجل فهم عالم مغاير لهم، توطئة للسيطرة عليه. ومن هنا كانت العوامل السياسية فيه متداخلة مع العوامل الثقافية، وكانت المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية هي التي تضمن استمراريته، وإحكام الروابط بين حلقاته.
صفحة غير معروفة