الجزء الأول
[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا إلى مناهج الشريعة الغراء، وجعلها ذريعة إلى نيل سعادتي الدنيا والأخرى، والصلاة والسلام على محمد أكمل الأنبياء قدرا، وعلى آله الذين سموا على العالم فضلا وفخرا، صلاة تكون لنا يوم القيامة شرفا وذخرا.
[وبعد (1)].
فإن أولى ما رتعت في رياض حدائقه الأفكار، وأحق ما صرفت في اكتسابه آناء الليل والنهار، هو العلم بالأحكام الشرعية بعد الإحاطة بما لا بد منه من الأصول الدينية.
ولا ريب أن أساس قواعد الأحكام حديث أهل بيت النبوة عليهم أفضل السلام، وقد ألف جماعة من متقدمي الأصحاب شكر الله سعيهم
صفحة ٥
في ذلك جملة من الكتب والأصول، باذلين وسعهم في إثبات كل مسموع ومنقول، غير أن أهل البغي لما قصدوا إطفاء نور الصواب ذهب كثير من الكتب المؤلفة فيما مضى من الأحقاب، وإن كان الله سبحانه متم نوره ولو كره المشركون، فلا جرم بقي من ذلك مناهج يسلكها السالكون.
ولما كان كتاب الإستبصار في الجمع بين مختلف الأخبار من أجل كتب الحديث شأنا، وأرفعها قدرا ومكانا، وأتمها دليلا وبرهانا، وكيف لا؟! وهو من مؤلفات شيخ الطائفة، وعماد الإيمان، المستغني بوضوح كماله عن البيان، أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس الله روحه) ونور ضريحه.
ثم إن الكتاب لا تخلو عباراته غالبا من الإجمال على وجه لا يتضح منها للطالب حقيقة الحال.
فأحببت أن اكتب عليه شرحا يوضح منه المرام، ويكشف عن وجه حقائقه نقاب الإبهام، ذاكرا فيه ما استفدته من مشايخي الأجلاء المعاصرين، وإن كنت أعد نفسي بالنسبة إلى هذا المقصد من جملة القاصرين، غير أن الميسور لا يسقط بالمعسور كما هو بين الناس معدود من المشهور، وأنا أتوسل إلى الله سبحانه أن يجعل أوقاتي مصروفة في موجبات ثوابه، وأعمالي سالمة من التلبس بأسباب عقابه، وأن يوفقني بمنه لإتمام هذا الشرح على ما هو مقصودي، ويجود علي بالجنة جزاء بذل مجهودي.
وقد رأيت أن أنظم ما أكتبه في سلك يقرب المعاني إلى الأفهام، ويبعد الغموض الذي قد يسبق منه الشك إلى بعض الأوهام، فابتدأت أولا بالكلام في سند الأخبار، ثم أتبعته بالقول في المتن موضحا ما فيه من
صفحة ٦
الأسرار، ثم ذكرت ما وقفت عليه من معاني الألفاظ اللغوية اعتمادا على أن للكتب المشهورة نوع مزية، وكل ما لم اشر فيه إلى أحد من العلماء الأعلام فهو مما سنح به فكري الفاتر في كل مقام، فإن يكن صوابا فهو من توفيق ذي الجلال، وإن يكن خطأ فالعذر تراكم الأهوال، وعلى الله سبحانه في جميع الأمور الاتكال.
ولنقدم قبل الشروع كلاما في فوائد الخطبة، سوى ما ذكرناه في حواشي تهذيب الأحكام، فإن في ذلك كفاية لمن طلب تحقيق المرام.
وجملة ما يحتاج إلى القول
اثنتا عشرة فائدة:
الأولى:
قال الشيخ (قدس الله سره)-: إن الأخبار على ضربين: متواتر وغير متواتر، فالمتواتر منها ما أوجب العلم.
وقد اختلف العلماء على ما يظهر من كلام جدي (قدس سره) في الدراية (1) في أن الخبر والحديث مترادفان أم لا، (وهذه عبارته على ما نقل عنه:) (2) يخص الحديث بما جاء عن المعصوم كالنبي (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام) عندنا، ويخص الخبر بما جاء عن غيره، ومن ثم قيل لمن يشتغل بالتواريخ وما شاكلها: الأخباري، ومن يشتغل بالسنة النبوية: المحدث؛ أو يجعل الحديث أعم من الخبر مطلقا، فيقال لكل خبر حديث من غير عكس، وبكل واحد من هذه الترديدات قائل (3). انتهى.
وربما يظهر من بعض أن الفارق بينهما غير موجود (4). وفيه ما فيه.
صفحة ٧
نعم لا يبعد ظهور الترادف.
أما ما قاله جدي (قدس سره)؛ من أنه يقال لمن يشتغل بالتواريخ، إلى آخره؛ فلا يخفى ما يتوجه عليه، والأمر سهل.
وللعلماء اختلاف في تحديد الخبر وعدمه، فقيل: (لا يحد لعسره) (1) كما في العلم.
وقيل: لأنه ضروري (2).
وكونه ضروريا لوجهين:
أحدهما: أن كل أحد يعرف أنه موجود، وهذا خبر خاص، وإذا كان الخاص ضروريا كان العام ضروريا؛ لأنه جزؤه.
ورد بأنه مبني على أن تصور هذا الخبر بكنهه ضروري، وكون العام أي مطلق الخبر ذاتيا له لا عرضيا؛ فالإثبات غير ظاهر.
وفي كلام بعض المحققين الجواب بما حاصله: أنه لا يلزم من حصول أمر تصوره؛ إذ لا يلزم من الحصول التصور، وقد يتقدم التصور على الحصول فيتصور وهو غير حاصل، وإذا تغايرا فالمعلوم ضرورة هو نسبة الوجود إليه إثباتا، وهو غير تصور النسبة التي هي ماهية الخبر.
قيل: ومراد المجيب بالنسبة التي هي ماهية الخبر النسبة مع المنتسبين؛ لأن النسبة والإضافة قد تطلقان على مجرد النسبة وقد تطلقان عليها مع معروضها، ويسمى مضافا غير حقيقي.
وقيل: إن حاصل ما ذكره أن الضروري هو العلم بحصول النسبة،
صفحة ٨
لا بتصورها.
واعترض على الجواب: بأن الكلام في الحصول ذهنا، ومغايرة مفهوم الحصول والتصور فيه غير ظاهر.
فإن أراد بقوله: لا يلزم من حصول أمر تصوره أن الحصول تصور الأمر، فيصير المعنى: لا يلزم من تصور أمر تصوره، وهو فاسد.
وإن أراد إذعان الأمر أي إذعان النسبة، ويصير المعنى: لا يلزم من إذعان النسبة تصورها، فهو خلاف الواقع؛ لأن كل مذعن متصور.
فقوله: المعلوم ضرورة نسبة الوجود، أي المتصور ضرورة والمذعن ضرورة نسبة الوجود.
فيه: أن المستدل لا يريد غيره؛ لأن حاصل دليله أن تصور هذه النسبة الخاصة أو إذعانها ضروري، فيكون تصور النسبة المطلقة أو إذعانها أيضا ضروريا؛ لأن المطلق جزء المقيد، فقوله: وهو غير تصور النسبة مسلم عند المستدل؛ إذ الجزء غير الكل، فالمغايرة لا يضر إثباتها.
وما قاله القائل في بيان الحاصل قد يقال عليه: إن تصور حصول النسبة يستلزم تصور النسبة؛ إذ تصور المضاف يستلزم تصور المضاف إليه، فإن أراد بالعلم تصور حصول النسبة فهو يفيد المدعى، وإن أراد الإذعان أي إذعان حصول النسبة فهو أيضا يستلزم تصور النسبة.
وثانيهما: أن كل أحد يعلم أن الخبر يحسن في موضع ولا يحسن في آخر، حتى أنه يوقعه تارة ولا يوقعه اخرى، وذلك يستلزم العلم بحقيقة الخبر ضرورة.
وأجيب عنه: بأنه يكفي في الحكم المذكور تصور الخبر بوجه، ولا يستلزم ذلك بداهته بالكنه، حتى يستلزم بداهة الخبر المطلق بالكنه.
صفحة ٩
ثم النافون للضرورة في الخبر، واحتياجه (1) إلى التعريف اختلفوا:
فقيل: إنه الكلام المحتمل للصدق والكذب (2).
وأراد باحتمالهما بالنظر إلى نفس مفهوم الخبر، وفي هذا التعريف شبهات.
وعرفه المحقق في كتاب الأصول: بأنه كلام يفيد بنفسه نسبة أمر إلى أمر نفيا أو إثباتا (3).
إذا عرفت هذا فاعلم أن الخبر [إما (4)] أن يكون متواترا، وهو خبر جماعة يفيد العلم بنفسه كما عرفه بعض- (5) وقيد «بنفسه» لإخراج خبر جماعة علم صدقهم بالقرائن الزائدة عما لا ينفك الخبر عنه عادة.
وأورد على التعريف لزوم الدور.
وفي شرح الدراية: أنه ما بلغت رواته في الكثرة مبلغا أحالت العادة تواطؤهم على الكذب، واستمر ذلك الوصف في جميع الطبقات حيث تتعدد، بأن يرويه قوم عن قوم وهكذا إلى الأول، فيكون أوله في هذا الوصف كآخره، ووسطه كطرفيه (6).
والظاهر أنه ليس بتعريف كما هو واضح.
وإفادة التواتر العلم لم ينكره غير السمنية والبراهمة (7)، وشبههم
صفحة ١٠
مردودة في محالها.
وخبر الآحاد ما سواه كما سيأتي بيانه.
وقد أورد بعض الأفاضل على قول المصنف فالمتواتر منها ما أوجب العلم أنه ينقض بخبر المعصوم، والخبر المحتف بالقرائن، قال: ولعل مراده من المتواتر ما أوجب العلم مطلقا، متواترا بالمعنى المصطلح عليه وغيره (1).
واعترض شيخنا (قدس سره)-: بأنه لا يخفى أن ما أوجب العلم من الأخبار أعم من المتواتر؛ فإن خبر الواحد المحفوف بالقرائن يفيد العلم أيضا، إلا أن وقوع هذا القسم في أخبارنا نادر (2).
أقول: ويمكن دفع جميع ذلك عن الشيخ:
أما الأول: فلأن الظاهر من قوله: ما أوجب العلم، من حيث كونه خبرا، وقول المعصوم إنما أفاد من حيث العصمة.
فإن قلت: المتواتر [أيضا (3)] أفاد العلم من حيث التواتر، فالإشكال باق.
قلت: المتواتر قد صار القيد والمقيد فيه بمنزلة الشيء الواحد، نظرا [إلى (4)] أنه في مقابلة قسيمه وهو خبر الواحد، فليتأمل.
وأما الثاني: وهو اعتراض شيخنا (قدس سره) فالجواب عنه كالأول.
ويزيد فيه: أن إفادة العلم محتملة لأن تكون من القرائن، أو من
صفحة ١١
الخبر بواسطة القرائن على وجه الخروج عنه، أو منهما على سبيل الجزئية، وفيما عدا الأول لا يصدق إفادة الخبر العلم، بل وفي الجميع أيضا بنوع من النظر، وهذا بخلاف المتواتر، لما أسلفناه، والأمر في هذا سهل.
أما ما قاله الشيخ (رحمه الله) من أن ما يجري هذا المجرى لا يقع فيه التعارض ولا التضاد في أخبار النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام).
فأقول: إن فيه نظرا؛ لأن تواتر الحديث عن الأئمة (عليهم السلام) لا يمنع وقوع التعارض بعد تجويز التقية عندنا، كما في غيره من الأخبار التي يجمع الشيخ بينها.
نعم في أخبار النبي (صلى الله عليه وآله) لا يقع التضاد، كما هو واضح.
الثانية:
قال الشيخ (رحمه الله)-: وما ليس بمتواتر على ضربين، فضرب منه يوجب العلم [أيضا(1)] وهو كل خبر تقترن إليه قرينة توجب العلم، وما يجري هذا المجرى يجب أيضا العمل به، وهو لاحق بالقسم الأول.
وقد تقدم منا الكلام في احتمال إفادة العلم من الخبر أو القرينة أو هما، وكلام الشيخ يعطي بظاهره أن القرينة توجب العلم؛ وفيه ما فيه.
أما ما قاله (رحمه الله) من أن ما يجري هذا المجرى يجب العمل به، إلى آخره.
فقد يتوجه عليه: أن إطلاق وجوب العمل مع عدم الفحص عن المعارض، وبتقدير وجوده وكونه متساويا له مشكل، بل لا بد من وجه الجمع، وإطلاق إلحاقه بالقسم الأول كذلك، وقد ذكر المحققون (2): أن
صفحة ١٢
الخبر المحفوف بالقرائن يفيد العلم، لكن لا مطلقا، بل بالقرائن التامة التي لا يحتمل الغلط والخلاف فيها عادة.
وما اعترض على ذلك من أن العلم إنما حصل من القرائن كالعلم بخجل الخجل ووجل الوجل وأمثال ذلك (1).
قيل: يدفعه أن [العلم (2)] حصل من نفس الخبر بالوجدان لكن بضم هذه القرائن (3). وفيه نوع تأمل؛ لأن باب الاحتمال واسع، ودعوى الوجدان غير مسلمة، إلا أن ثمرة هذا هينة.
الثالثة:
قال الشيخ (رحمه الله)-: والقرائن أشياء كثيرة، منها: أن يكون مطابقا لأدلة العقل ومقتضاه.
ولا يخفى أن مطابقة الخبر لأدلة العقل فيها نوع إجمال؛ لأن دليل العقل على ما ذكره الشهيد في الذكرى أقسام:
منها: ما لا يتوقف على الخطاب، كرد الوديعة وقضاء الدين، ومنها البراءة الأصلية، ومنها الأخذ بالأقل عند فقد الدليل على الأكثر، ومنها أصالة بقاء ما كان وهو الاستصحاب.
ومنها: ما يتوقف العقل فيه على الخطاب، كمقدمة الواجب المطلق، واستلزام الأمر بالشيء النهي عن ضده، وفحوى الخطاب وهو مفهوم الموافقة، ولحن الخطاب وهو ما استفيد من المعنى ضرورة، مثل قوله تعالى «اضرب بعصاك البحر فانفلق» (4) أي فضرب فانفلق، ودليل
صفحة ١٣
الخطاب وهو المسمى بالمفهوم (1).
وإذا عرفت هذا، فالمصنف إن أراد جميع ما ذكر لا يتم؛ لذكر بعضها فيما بعد ولا يبعد أن يكون مراده بالأدلة غير ما يذكره من المفهوم، أو يريد أدلة العقل الغير المتوقفة على الخطاب.
ولا يظن أن المتوقف على الخطاب كيف يؤيد الخبر؛ لوضوح دفعه.
نعم ربما يستبعد بعض ما ذكره الشهيد (رحمه الله) كما يعرف بأدنى ملاحظة.
وما أورده شيخنا (قدس سره) من أن اقتران هذه القرائن أو بعضها لا يوجب العلم ولا مما يجب العمل به؛ إذ من الجائز كونه غير مطابق للواقع وإن اقترن بها، نعم لما كان كل من هذه القرائن دليلا شرعيا وجب العمل به، سواء انضاف إليه ذلك الخبر أم لا.
أقول: فيه نظر، أما أولا: فلأن بعض المذكورات الخبر المطابق للسنة المقطوع بها والإجماع، ولا ينكر حينئذ إفادة الخبر [العلم (2)] مع الانضمام إليهما ووجوب العمل به.
واحتمال أن يقال: إن وجوب العمل ليس بالخبر، بل بالسنة المقطوع بها والإجماع، والانضمام ليس بمفيد حكما.
له وجه، إلا أن العبارة لا تدل عليه.
وأما ثانيا: فلأن احتمال عدم مطابقة الخبر للواقع مع موافقته للسنة المقطوع بها أو الإجماع الحقيقي، لا وجه له؛ فإنه يقتضي عدم القطع في السنة والإجماع، وهذا لا ينكر.
صفحة ١٤
وأما ثالثا: فلأن الظاهر أن مراد الشيخ بهذا العلم هو الظن الراجح؛ لأن العلم الحقيقي المطابق لما في نفس الأمر مشكل الحصول، من حيث إن المطابقة في المحسوس تظهر في الحس، أما في المعقولات فليست المطابقة إلا باعتقاد المطابقة، واعتقاد المطابقة لا بد وأن يكون مطابقا وهكذا، فيلزم التسلسل أو الدور، غاية الأمر أنه يمكن تكلف الجواب، إلا أن [عدم (1)] الدخول في باب المضائقة (2) مع إمكان الخروج بإرادة العلم الذي ذكرناه أولى.
وما يقال: إن العلم الشرعي يحصل من الخبر بدون القرائن، فأي حاجة إليها؟.
جوابه: أن كلامنا في مرتبة أعلى من هذا، وهو الظن الراجح، وإن ذهب بعض من الأصوليين إلى أن خبر الواحد مطلقا يفيد العلم (3)؛ إلا أنه إن أراد العلم الشرعي فلا نزاع معه؛ وغيره محل الكلام، بل لا وجه له.
وبالجملة: فالاحتمال في كلام الشيخ ممكن لولا قوله في أول الكلام: وهذا لاحق بالقسم الأول يعني المتواتر فإن الظاهر منه أنه على نهجه.
وفيه: أنه يجوز إرادة الإلحاق في وجوب العمل، وأنت خبير بإمكان رد هذا من حيث إنه قائل فيما بعد: إن الخبر العاري عن القرائن والمعارض يجب العمل به، فيتحد مع هذا.
وقد يقال بالفرق بين الخبرين، من حيث إن الخبر المحفوف بالقرائن
صفحة ١٥
يعمل به من غير شرط، بخلاف غيره؛ لما سيأتي من الشروط، فينبغي تأمل هذا كله.
وأما رابعا: فقوله (قدس سره): نعم لما كان كل من هذه القرائن دليلا شرعيا، إلى آخره.
يريد به وجوب العمل بالقرائن؛ لكونها أدلة في نفسها كما تقتضيه العبارة، وغير خفي أن هذا لا يأبى أن يكون الخبر معها دليلا أيضا باعتبار أنها أفادته العلم، إما بمعناه المتعارف، أو الظن الراجح.
والوجه في جواز كونه دليلا أن القرائن المذكورة وإن كانت أدلة أيضا يستغنى بها، إلا أن المستدل لو أخذ الخبر دليلا لا يكون فاعلا لغير الجائز، والمغايرة بالاعتبار كافية.
ولعل الجواب عن هذا غير خفي.
الرابعة:
قال الشيخ: ومنها أن يكون مطابقا لظاهر القرآن، إما لظاهره، أو عمومه، أو دليل خطابه، أو فحواه.
وهذا الكلام منه (قدس سره) يحتاج إلى مزيد بيان يندفع به عنه عدة إشكالات.
فاعلم أن المذكور في كلام جماعة من الأصوليين أن القرآن ظني الدلالة وإن كان قطعي الأصل، بخلاف الخبر (1).
وهذا وإن كان في نظري القاصر لا يخلو من تأمل؛ من حيث إن الخبر لا يخلو من موجبات عدم القطع إلا نادرا، ونقل الوالد (قدس سره) عن بعض الأصوليين بأن ظاهر القرآن قطعي نظرا إلى مقدمة خارجية وهي امتناع أن يخاطب الله بشيء ويريد خلاف ظاهره- (2) وفي هذا كلام حررته
صفحة ١٦
محل آخر من الأصول، ولا يبعد أن يكون الشيخ (رحمه الله) ناظرا إلى هذا القول، أما على تقدير ظنية الدلالة فإفادته حصول العلم بالخبر بعيدة.
إلا أنه يقال نحو ذلك في أدلة العقل، فإن بعضها لا يفيد القطع، والجواب الجواب.
ولعل الأولى أن يراد من العلم الظن الراجح، ولا ريب أن انضمام الظن الحاصل من القرآن إلى الظن الحاصل من الخبر يفيد الرجحان، وهذا أحد الإشكالات، وقد علمت الجواب عنه.
ومنها: أنه جعل عموم القرآن قسيما لظاهره.
وغير خفي بعده عن المعروف.
وقد يقال: إن مراد الشيخ بالظاهر غير المحتمل، والعموم لما كان قابلا للتخصيص فإن ظن عدم خصوصه يبعد عن الظهور على وجه يصير قسيما له.
وهذا لا يخلو من تكلف، إلا أن باب التوجيه واسع.
ومنها: أنه جعل دليل الخطاب والفحوى قسمين.
والحال (فيهما) (1) غير خفي.
ثم إن دلالة الفحوى ودليل الخطاب لا مجال لدعوى القطع فيها إلا بسلوك مناهج من التكلف، والظن الحاصل منها لا ريب أن القوة الحاصلة به للخبر ليست كقوة الظاهر، وكأن الشيخ (رحمه الله) لا يعتبر في رجحان الظن على تقدير إرادته أقوى مراتبه، بل الأعم، ويندفع به حينئذ بعض الإشكال مع نوع تأمل في المقام.
الخامسة:
قال الشيخ: ومنها أن يكون مطابقا للسنة المقطوع بها
صفحة ١٧
إما صريحا أو دليلا أو فحوى أو عموما.
وهذا الكلام منه؛ من جهة ذكر الصريح قسيم الدليل، والفحوى قسيم العموم؛ لا نعلم وجهه (1).
أما من جهة ذكر السنة المقطوع بها ثم ذكر الفحوى والعموم، فقد يتوجه عليه في نظري القاصر: أن السنة المقطوع بها إنما يتحقق القطع في لفظها أو معنى اللفظ، أما الفحوى فدخولها في القطع محل خفاء، بل ربما يظن أنه عسر التحقق، وأما العموم فتحقق لفظه بالقطع ممكن، أما تحقق معناه بالقطع فله نوع وجه، وإن كان نادرا، من حيث وإن التنصيص على العموم وإنه غير مخصوص ليكون عمومه (2) قطعيا لم نره الآن، وإن كان لا يضر بالحال.
وبهذا قد يتوجه على الشيخ إشكال، ويتضح جوابه بما أسلفناه من جهة إرادة الظن الراجح، فتأمل.
السادسة:
قال الشيخ: ومنها: أن يكون مطابقا لما أجمعت عليه الفرقة المحقة، فإن جميع هذه القرائن تخرج الخبر من حيز الإجمال(3)، وتدخله في باب المعلوم وتوجب العمل به.
وكأن مراده بوجوب العمل ثبوت العمل، فإن الوجوب غير ظاهر، وإن أوهم بعض أدلة أهل الأصول وجوب العمل؛ إلا أنا قد تكلمنا في ذلك في محله، وأظن الأمر لا يحتاج إلى زيادة البيان.
ثم (4) ينبغي أن يعلم أن المحقق في المعتبر ذكر من جملة القرائن غير
صفحة ١٨
ما ذكره المصنف من إجماع الفرقة المحقة على ما يفهم من ظاهر كلامه فإنه قال في أول الكتاب:
أفرط الحشوية في العمل بخبر الواحد حتى انقادوا إلى كل خبر، وما فطنوا لما تحته من التناقض، فإن من جملة الأخبار قول النبي (صلى الله عليه وآله): «ستكثر بعدي القالة علي» (1)، وقول الصادق (عليه السلام): «إن لكل رجل منا رجلا يكذب عليه» (2).
واقتصر بعض عن هذا الإفراط، فقال: كل سليم السند يعمل به، وما علم أن الكاذب قد يصدق (3)، والفاسق قد يصدق، ولم يتنبه أن ذلك طعن في علماء الشيعة وقدح في المذهب؛ إذ لا مصنف إلا وهو [قد (4)] يعمل بخبر المجروح كما يعمل (بخبر العدل) (5).
وأفرط آخرون في رد الخبر حتى أحال استعماله عقلا ونقلا.
واقتصر آخرون فلم يروا العقل مانعا، لكن الشرع لم يأذن في العمل به.
وكل هذه الأقوال منحرفة عن السنن، والتوسط أقرب (6)، فما قبله الأصحاب أو دلت القرائن على صحته عمل به، وما أعرض عنه الأصحاب أو شذ يجب اطراحه (7). انتهى المراد من كلامه .
صفحة ١٩
وأقول: إن الوجه المطلوب منه هو أن قبول الأصحاب يقتضي العمل بخبر الواحد، لكن لما جعله قسيما للقرائن علم أنه ليس من جملتها.
فإن أريد الأصحاب جميعهم كان إجماعا، والشيخ هنا عد الإجماع من جملة القرائن، والأمر سهل.
وإن كان مراد المحقق الشهرة بين الأصحاب لا الإجماع كما هو الظاهر لا من حيث إن الإجماع إذا تحقق لا حاجة إلى الخبر، لإمكان التسديد بما تقدم القول فيه، بل لأن قبول الأصحاب جميعهم للخبر يخرج عن محل النزاع، فإن محل النزاع خبر الواحد المختلف فيه بين العلماء.
فإن قلت: إذا وافق الخبر الإجماع ليس هو من قسم الخبر المجمع عليه، فكيف يذكر أولا ما يدل على ذلك؟! قلت: لما ذكرت وجه، إلا أن الحكم في العمل لا يختلف، وإن تغاير في الاعتبار.
ثم إن كلام المحقق (1) إذا حمل على موافقة بعض العلماء؛ على أن يكونوا أكثر، ليفيد الظن الراجح بصحة الخبر؛ أمكن، لكن ينبغي أن يقيد بمن قبل الشيخ، فإن من بعد الشيخ لا تثمر شهرتهم (2) نفعا، كما يعلمه من وقف على كلام جدي (قدس سره) في شرح البداية (3).
وما قاله من القرائن وإن أجمله في المقام، إلا أنه في رسالة الأصول ذكر أن القرائن أربع، أحدها: الموافقة لدليل العقل، وثانيها: الموافقة لنص الكتاب خصوصه أو عمومه أو فحواه، وثالثها: الموافقة للسنة المقطوع بها
صفحة ٢٠
كالمتواتر، ورابعها: الموافقة لما أجمع عليه (1).
والظاهر أن مراده بالقرائن ما ذكره هناك، وحيث إن من جملة القرائن الموافقة لما أجمع عليه، فلا بد أن يراد بقبول الأصحاب غير الإجماع، بل إما الإجماع على قبول الخبر، وقد علمت الخروج عن محل النزاع، أو موافقة الشهرة.
ثم قد يقال على المحقق: إن ما ذكره من أن العمل بالخبر السليم السند يقتضي الطعن في علماء الشيعة- (2) غريب منه؛ لأن العامل بخبر المجروح لا يعمل به لكونه مجروحا، بل للقرائن، كما يعلم من القوانين المقررة، أو لكونه مجروحا من وجه مقبولا من آخر، على حسب ما أدى الاجتهاد إليه.
السابعة :
قال الشيخ (رحمه الله)-: وأما القسم الآخر، فهو كل خبر لا يكون متواترا ويتعرى من واحد من هذه القرائن، فإن ذلك خبر واحد ويجوز العمل به على شروطه(3)، فإذا كان(4)لا يعارضه خبر آخر فإن ذلك يجب العمل به؛ لأنه من الباب الذي عليه الإجماع في النقل.
وهذا الكلام من الشيخ لا يخلو في الظاهر من إشكال؛ لأن دعوى الإجماع على العمل بالخبر المذكور يعارضها ما وقع من الاختلاف في خبر الواحد، فإن المنقول عن بعض عدم جواز التعبد بخبر الواحد عقلا (5) وعن
صفحة ٢١
السيد المرتضى رضي الله عنه منع وقوع التعبد به (1)، وحكي عنه أنه قال: لو وجب العمل به لعلم إما بالعقل أو بالنقل، والقسمان باطلان، أما الملازمة فلأنه لو كان التكليف وقع به لكان للمكلف إليه طريق يعلم به؛ لأن تكليف ما لا طريق إلى العلم به قبيح عقلا، وأما انحصار الطريق في النقل والعقل فظاهر؛ لانحصار الطريق فيهما، وأما انتفاء اللازم فبما سيبطل به معتمد المخالف، وإذا بطل دليل التكليف به بقي بلا دليل (2).
وفي الذريعة قال (قدس سره) بعد نقل الاستدلال بالإجماع على العمل بخبر الواحد: من استدل بهذا الدليل ادعوا الضرورة في عمل الصحابة (بأخبار الآحاد) (3) ويدعون أن العلم بذلك يجري مجرى العلم بأنهم كانوا يرجعون في الأحكام إلى القرآن والسنة المتواترة، وكما يعلم رجوع العوام منهم إلى فتوى المفتي، وربما قالوا: كما يعلم ضرورة سخاء حاتم.
ثم قال: والجواب عن هذا الذي حملوا نفوسهم عند ضيق الحيلة عليه، أن الضرورة لا تختص مع المشاركة في طريقها، والإمامية وكل مخالف لهم في خبر الواحد من النظام (4) وتابعيه، ومن جماعة من شيوخ متكلمي المعتزلة كالقاساني بالأمس (5) خالفوهم فيما ادعوا فيه الضرورة مع
صفحة ٢٢
الاختلاط بأهل الأخبار، ويقسمون بأنهم لا يعلمون ذلك ولا يظنونه، فإن كذبتموهم فعلتم ما لا يحسن، وكلموكم بمثله، والفرق بين الرجوع إلى القرآن والمتواتر وبين خبر الواحد واضح؛ لأن ذلك لما كان معلوما ضرورة لم يخالف فيه عاقل، والخلاف فيما ادعوه ثابت، وكذلك القول في سخاء حاتم؛ لأن من خالف لا يناظر، ويقطع (1) على بهته ومكابرته، وليست هذه صفة من خالف في أخبار الآحاد (2). انتهى المراد من كلامه (قدس سره).
وقد يقال عليه: إن الضروري ليس محصورا في الأول الذي لا يخفى على أحد، وحينئذ يجوز وجود القرائن والأدلة عند بعض دون بعض.
نعم ما مثلوا به من الضروريات محل كلام.
وقد نقل عنه الوالد (قدس سره) أنه قال في جواب المسائل التبانيات: إن العلم الضروري حاصل لكل مخالف للإمامية أو موافق لهم أنهم لا يعملون في الشرائع بخبر لا يوجب العلم، وأن ذلك قد صار شعارا لهم يعرفون به؛ كما أن نفي القياس في الشريعة من شعائرهم (3).
وهذه المبالغة من السيد مع دعوى الشيخ الإجماع على العمل من أعجب الأشياء.
أقول: وقد يمكن الجمع بين كلام السيد والشيخ بأن المنفي من السيد العمل بالخبر مطلقا، والمدعى عليه الإجماع من الشيخ يخرج عن ربقة الظن عند من يعلم الإجماع، فيعود حاصل النزاع إلى أن العمل بالخبر
صفحة ٢٣
المجرد عن القرائن والإجماع على العمل به هل هو واقع أم لا، وإن كان كلام الأصوليين مضطربا في الاستدلال، وحينئذ يرجع كلام الشيخ إلى أن الخبر الخالي عن المعارض يفيد العلم بسبب حصول الإجماع على العمل به، وفي الحقيقة هذا نادر في الأخبار؛ إلا أن يحمل المعارض على المعتبر من الأحاديث دون مطلق المعارض، وغير خفي أن هذا يوجب زيادة الإشكال.
(فإن قلت: ما معنى قول الشيخ: عليه الإجماع في النقل؟.
قلت: الذي فهمته من بعض مشايخنا، أن المراد كون الظاهر من الأصحاب الفحص والبحث عن دلائل المسائل، فيبعد عدم اطلاعهم، فحيث لم ينقلوا ما ينافيه، ولا أفتوا بنقيضه فكأنهم اتفقوا على نقله، وهذا غير بعيد من مرام الشيخ، ويتأيد به ما قلناه من خصوص الخبر حينئذ، غير أن للمناقشة في مثل هذا الإجماع تأملا، وهو راجع إلى الإجماع السكوتي، ودون إثبات حجيته خرط القتاد.
فإن قلت: كيف يقرب من مرام الشيخ، والحال أنه سبق منه أن الخبر إذا اقترن به الإجماع عمل عليه، فيكون في كلامه تكرارا.
قلت: يحتمل الفرق بين الإجماع السكوتي وغيره، وهذا كاف في حل العبارة) (1).
أما ما قاله الوالد (قدس سره) من أن اعتماد المرتضى فيما ذكره على ما عهده من كلام أوائل المتكلمين منهم، والعمل بخبر الواحد بعيد عن طريقتهم، وأنه لم يتضح من حال الشيخ المخالفة للسيد، وإن (2) كانت الأخبار قريبة
صفحة ٢٤