ولقد شد انتباهي طويلًا ذلك الفصل الذي عقده في وساطته وعنوان له بعبارة "مواقع الكلام". فلقد حاول أن يثبت فيه أن مزية الكلام إنما ترجع إلى نظمه، لا إلى جزالته وقوته، ولا إلى ما فيه من تنسيق وتزويق، ولكنه لا يستطيع أن يبين لنا أسباب تلك المزية كما بينها عبد القاهر من بعده - إذ هو لا يستطيع أن يفصح لنا عن تلك الأسباب بأكثر من أن هذا أمر تستخبر به النفوس المهذبة وتستشهد عليه الأذهان المثقفة، بل أنه يجهر بأنك لا تستطيع أن تذكر لهذه المزية سببًا، بل ويقيم الدليل على هذا من الأمور الحسية المشاهدة، فيقول، وأنت قد ترى الصورة تستكمل شرائط الحسن، وتستوفى أوصاف الكمال، وتذهب في الأنفس كل مذهب، وتقف من التمام بكل طريق، ثم تجد أخرى دونها في انتظام المحاسن والتئام الخلقة وتناصف الأجزاء، وتقابل الأقسام وهي أحظى بالحلاوة، وأدنى إلى القبول، وأعلق بالنفس، وأسرع ممازجة للقلب، ثم لا تعلم - وإن قاسيت واعتبرت ونظرت وفكرت - لهذه المزية سببًا، ولما خصت به مقتضيًا".
فالقاضي الجرجاني يدرك جمال الأساليب، ولكنه لا يكلف نفسه عناء البحث عن أسبابه، وكيف لا؟ وهو الذي يعتبر السائل عن
1 / 27