ولأن أهم وسيلة نقل للمصريين هي الإبحار في النيل، فقد تصوروا أن هناك نيلا آخر في السماء، هو الذي يؤدي إلى سقوط الأمطار أحيانا.
9
وأن دورة الشمس اليومية تتم بإبحار «رع» في النيل السماوي، في مركب أسموه «مركب الشمس»، تجوب به السماء من الشرق إلى الغرب نهارا، لتنتقل إلى زورق آخر مع الغروب لتعبر به سماء سفلى أثناء الليل من الغرب إلى الشرق، وهكذا دواليك. أما تلك اللحظة التي يتم فيها الانتقال فكانت أخطر اللحظات إطلاقا؛ حيث كانت غالبا ما تدور حرب هائلة ودموية يظهر أثرها في لون الغسق الناري وفي لون الشفق؛ فالرحلة الإلهية لم تكن تتم دوما في بهاء وسلام؛ لأن هناك إلها للشر هو الأفعى الضخمة الأفعوانية «أبوفيس» وجنوده ، يكمن في لحظة الظلام ليداهم زورق الشمس ويبتلع إله النور، لذلك كان يحرس الإله في مركبه بحارة وجنود وحاشية، تخوض معارك شرسة ضد إله الظلام والشر «أبوفيس»
10
حتى لا تسمح له بابتلاع الشمس الذي يعني خراب الزرع والضرع، وتحول البلاد إلى بادية جرداء، لذلك ألحق المصريون باسم «أبوفيس» العلامة الهيروغليفية الدالة على الصحراء والجدب، وهي ذات العلامة المستخدمة لكل ما يمت للصحراء والشر والجفاف والظلام بصلة.
ومن هنا لا بد من وجود جيوش الخير بصحبة «آتوم رع» لقهر التنين «أبوفيس» وجنوده، وهو اعتقاد مرده إلى اعتقاد آخر شاع في أقطار الشرق القديم - ولم يزل - وهو أن كسوف الشمس أو خسوف القمر، ناجم عن ابتلاع ثعبان ضخم أو شيطان أو مجموعة من الجن للجرم السماوي. وما زال الأهلون في قرانا يخرجون بالطبول والعصي والسيوف في جماعات منظمة تمثل جنود الخير تهلل وتكبر لمساعدة الجرم عند ظهور حالة الخسوف، لتخويف الثعبان ليطلق الجرم السماوي. ومن هذا اعتقد المصري القديم في تعرض «آتوم رع» أحيانا، بل وفي أي وقت، للالتهام أثناء إبحاره في دوامات النيل السماوي؛ لذلك وضعوا تلك الترتيلة السحرية المعوذة لمساعدة إله الشمس على الهروب من «أبوفيس» والإبحار السريع في مياه السموات العظيمة؛ حيث لا يتمكن «أبوفيس» من اللحاق به أمام جحافل جيش الخير التي تعطله دوما عن غايته الشريرة. وقد صيغت ترتيلة «فشل التنين» عدة صياغات متواترة في نقوش متعددة في مواضع مختلفة بالوادي، وليس على حجر العريش وحده، وتستخدم التعويذة خاصة عند الغروب حيث تختفي الشمس في الظلام وتكون أكثر تعرضا للابتلاع، وربما لا تعود للظهور في اليوم التالي. وإن الشمس كان دوامها النهاري يتناقص في فصل الشتاء (هو فصل الجدب) إلا لأنها كانت تخوض حربا مريرة مع جيشها كل ليلة ضد الشيطان «أبوفيس»، الذي لا يستقوي إلا في فصول الجدب الباردة.
ومطلع النص معنون ب «فاتحة قهر أبوفيس عدو رع وعدو الملك أون نفر (اصطلاح ملكي يشير لأي فرعون بمعنى له الحياة)، له الحياة والفلاح والصحة ... كتاب معرفة الخلق لرع وقهر «أبوفيس»، الكلام الذي يتلى»، ثم يبدأ المقطع الأول بترديد عظمة أتوم رع باعتبار الخالق «قال إله الجميع بعد أن جاء إلى الوجود ... (هنا حديث طويل عن خلقه للآلهة من أبنائه وأحفاده ومنهم «جب رب الأرض» ... «أمرتهم بإبادة أعدائي بواسطة السحر» الفعال لحديثهم، وأخرجت هؤلاء الذين جاءوا إلى الوجود من جسمي أن تصب عليه لعنة ... «ينتصر رع عليك ... هكذا تكون في مركبك»، ستعبر السماءين في سلام ... إلخ.»
11
وهكذا يهمل «فليكوفسكي» اسم «رع» تماما من النص، ويفصل عنه «أتوم»، ويحذف الهمزة ليصبح «توم» حتى يلتقي باسم الموضع التوراتي «بي توم». ثم تصبح المعركة ضد ظلام الكسوف، معركة الفرعون «توم» مع الملك الهكسوسي «أبوب» عند موضع عبور بني إسرائيل الميامين «بي حيروث». ويتحول إسراع «أتوم رع» بالهرب من أبوفيس (حيث كانت مهمته الهرب دوما والحفاظ على ذاته بينما يحارب جنوده عنه ليهرب) إلى الماء السماوي؛ يتحول إلى فرعون يندفع مع جيشه إلى دوامات البحر (وعليه نفهم أنه غرق رغم أن القصة ليس فيها أي غرق). وبكل براعة يطابق بين اسم التنين «أبوفيس» وبين اسم الملك الهكسوسي «أبوب» مع استثمار عدم معرفة القارئ غير المتخصص لمعنى «خرطوش»، فيشير إلى أن وجود اسم «توم» محفورا على خرطوش يشير إلى كونه كان ملكا لأنها الصيغة المصرية المتبعة لكتابة أسماء الملوك. بينما المعلوم لدى أي مهتم بالمصريات أن الخرطوش كان لتدوين أسماء الآلهة، في المقام الأول، ثم لتدوين أسماء الملوك المؤلهين، أو الحاكمين بحق النسل الالهي في المقام الثاني؛ لذلك كان طبيعيا أن ينقش سم «رع آتوم» داخل خرطوش. أما اسم حالة ما بين النور والظلام شبه المضيئة بين ذهاب النهار الذي أظلم، وبين قدوم ظلمة الليل، فيتحول من التسمية «باخيت» التي تدل على الخوف من الظلام وما قد يحيق برب الشمس، ولم يزل يقولها المصري إلى اليوم تخويفا «بخ»، تتحول إلى «بي حيروث» التوراتية.
ثم إن «فليكوفسكي» يضع علامة استفهام وعلامة تعجب من تلقيب «رع» مرة بلقب «حر أختي» ومرة بلقب «حرماكيس»، وهو ما يشير إلى أنه يوحي لقارئه، أنه قد لمس خطأ في النص ربما يرجع لجهل من كاتبه. لكن معنا ربما انصرف الذهن الأن إلى جهل في «فليكوفسكي» ذاته. لكن الرجل حتى الآن أثبت براعة تجعلنا ننأى به عن صفة الجهل، لكنها لا تنأى به عن العمد إلى التزوير؛ لأن «حر أختي» هو اسم الشمس أو لقبها في حالة الشروق، أما «حرماكيس» فهو عندما تكون في حالة الغروب ويمثلها حينئذ أبو الهول، واللقب الحوري لإله الشمس «رع آتوم» يشبه الشمس بالحر أو «حور» الصقر. إنها تطير كالصقر، إضافة لما يحمله لفظ «حر» من معنى الحرارة.
صفحة غير معروفة