كل هذا وورطة الأحداث الثورية قائمة، لكن الآن قد خفت حدتها في ذهن القارئ، ويسهل عندئذ أن يسوق تخريجه الضعيف المتكلف والمبتسر، في كون إصرار البردية على تعرض أبناء الأمراء والحكام فقط للقتل والتشريد، هو موافقة تامة للتوراة، التي قررت قتل الرب لأبكار المصريين. والأبكار في تفسيره ليست سوى أبناء النخبة والطبقة البكر المصطفاة، ولأنه لا يمكن - عقلا - قبول أن يكون يهوه قد أمضى ليلته يمارس نزوته الشاذة في قتل أطفال الأغنياء، فلم يبق أمام «فليكوفسكي» سوى مزج فكرة الثورة - التي يعترف بها بسرعة وبألفاظ غير حاسمة - بإرادة الرب «يهوه»، وينتهي إلى أن ربه انتقم من المصريين بقتل المختارين المميزين من النبلاء والمترفين. ثم يردف فورا بما يشعر القارئ بمدى موضوعيته ونزاهته فيقول: «وبرغم أن البردية المهترئة «لم تحتو على أي ذكر للإسرائيليين صراحة أو تلميحا، ولم تشر إلى أي من قادتهم (؟!).» فإن ثلاثا من الحقائق ظهرت بوضوح تام كنتيجة للكارثة، أو مجموعة الكوارث المتتالية، وهي: تمرد السكان، فرار البؤساء والمساكين المسخرين للعبودية، واختفاء الملك في ظروف غامضة. وبالرغم من التطابق الوصفي للكوارث بين ما ذكرته البردية، وما سردته أحداث الكتاب المقدس، فإنني إن حاولت أن أستخرج من البردية أكثر من الحقائق، فقد أعرض نفسي للريب والظنون، بمحاولة استغلال الحالة السيئة التي وجدت عليها البردية، لإثبات نتائج مسبقة بتضمينها ما لم تتضمنه. لكن الإشارة للكارثة، والجماهير التي تمردت وفرت ليست غامضة، ومعناها واضح وليس فيها أي مجال للبس أو غموض ... «وهي زلازل متتابعة» صاحبت ظواهر طبيعية أخرى اجتاحت أرض مصر، «صاحبها أكثر من بلاء» سبب هلاك الإنسان والحيوان والنبات، وإتلاف كل مصادر المياه.»
والرجل هنا، وهو يلبس ثوب العالم النزيه والأمين، يقوم بأكثر من تلفيق، وأكثر من تزوير لدلالات الوثيقة، فإذا كان السكان قد تمردوا فهذه حقيقة، وأن يكون المعتقلون قد فروا من الحبس فهي حقيقة أخرى، لكنها لا تشير بالمرة إلى فرار بني إسرائيل من عبودية مصر إلى فلسطين، أما ما يسميه اختفاء الملك في ظروف غامضة، فهو إشارة ذات تخابث واضح على عقل القارئ، وتذهب به فورا إلى فكرة الغرق في البحر.
أما أن يطابق بين النص البردي «انظروا، إن النار قد اشتعل لهيبها عاليا ضد أعداء البلاد، وترجمها هو «أمام أعداء البلاد»، وبين نص التوراة «وكان الرب يسير أمامهم نهارا في عمود سحاب ليهديهم في الطريق، وليلا في عمود نار ليضيء لهم.» فهو افتئات واضح على اللفظة المصرية التي تفيد معنى «مقابل» والتي ترجمها «سليم حسن» بمعنى «ضد»، والتي تحمل ضمنيا معنى أن لهيب الثورة كان إشارة للبدو بتجاوز حدود مصر وهي في حالتها المتردية، وهو ما توضحه البردية دون لبس في قولها - حسب ترجمته هو - «ماذا حدث؟ لقد علم الآسيويون بحال البلاد.»
وعن قول «إبيور» في النص الفليكوفسكي: «إن ذلك لم يحدث لأي فرعون آخر قط.» فهو ليس إشارة لغرق جلالته إنما لخطف الفقراء لجلالته، وربما محاكمة جلالته، وربما إعدام جلالته.
إننا نقرر مع التاريخ التقليدي، الذي لم يعجب «فليكوفسكي»، والذي لم يذكر بني إسرائيل بالمرة إلا في نص مرنبتاح المعروف، «أن البدو الذين تسللوا إلى البلاد إثر الثورة، في العصر المتوسط كانوا شيئا يختلف تماما عن غزو الهكسوس الذي دخل بجحافله في العصر المتوسط الثاني»، وأن الغزو الأول كان تسللا غير ذي بال و«لا تزعج به نفسك، إن هو إلا آسيوي.» وأن أصحاب الغزو الأول أطلق عليهم اللسان المصري «العاموحريشع» أي البدو فوق الرمال، أما الغزو الثاني فكان باللسان المصري «حقاو-خاسوت» التي نطقت عند «مانيتون» «هكسوس»، ولم يخلط التاريخ في وثائقه بينهما ولا مرة واحدة. (5-2) تزييف دلالات حجر العريش «من سيهتم حقا بالبحث وراء رجل بهذا القدر من الاجتراء؟ أو من سيشك أصلا في قرائن تركب بعضها فوق ذهن قارئ أسلم قياده لمفكر يبدو بهذا القدر من النزاهة؟ وعليه من سيهتم مع الصدمة النفسية الوجدانية بالبحث والاهتمام؟ أو من سيجد نفعا يرجى بمراجعة نصوص قديمة بعد الصدمة العقلية لكل ما تعارف عليه التاريخ والمؤرخون؟ أو من سيجد في ذاته بواعث تدفعه للسعي وراء نص لا تجد له ذكرا في أغلب المصنفات التي تناولت مصر القديمة؟ وربما كان على الباحث المصر على التأكد أن يذهب بنفسه إلى متحف الإسماعيلية ليستفسر عن «حجر العريش» ومصيره، وعن ترجمته الصادقة، وله وعد مني أنه سيعود بعد ذلك يائسا من كل شيء، بعد كم اللامبالاة والاستهانة والاستخفاف التي سيلقاها من مؤسساتنا العتيدة.»
فما هو حجر العريش؟
لقد حكى لنا «فليكوفسكي» قصة العثور عليه بكثير من الصدق، ثم حكى لنا القصة المدونة عليه بما هو أكثر من الإفك، فحمل النص فوق ما يحتمل،وأنطقه بدلالات لم يقصد إليها ولا خطرت ببال الرجل الذي قضى ينقره بالإزميل زمنا؛ فالنص عند «فليكوفسكي» يحكي بلسان مبين عن بلوى عظيمة تعرضت لها مصر القديمة، من عواصف، وجيشان للأرض، ودمار، مما حدا بالفرعون المدعو «توم» والذي أكد كونه كان ملكا أن اسمه قد جاء مدونا على حجر العريش في خرطوش ملكي، إلى جمع جيوشه، ووعد جنوده في ظل الظلام الذي حل بالبلاد، أنهم سيرون النور من جديد بقوله: «سنرى أبانا رع حر أختي في منطقة باخيت المضيئة»، و«رع» هو إله الشمس المصري كما هو معلوم، هذا بينما الملك قد أضمر غرضا آخر ، فقد «ذهب صاحب الجلالة لمحاربة أبوبي وزمرته.» لكن النتيجة كانت وخيمة على الفرعون وجنده، لأنه «حين قاتل جلالة الملك رع حرماكيس (نظرا للتضارب بين حر أختي، وبين حرماكيس، يضع فليكوفسكي هنا علامة استفهام وعلامة تعجب)؛ حيث قاتل إله الشر بالقرب من البحر مكان الدوامة، فإن إله الشر لم يتغلب على جلالته، «ولكن جلالته هو الذي اندفع إلى دوامات البحر».» «وإذا كانت المنطقة المضيئة اسمها «باخيت» فإن «فليكوفسكي» بعد صفحتين، وبعد مرور كثير من الأسماء الغريبة الكفيلة بنسيان الاسم الأصلي، يعود لذات النص ولكن الكلمة تصبح هذه المرة «بي خاروتي»، وذلك كي تلتقي مع كلمة «بي هحيروث» العبرية، التي تشير للموقع الذي توقف فيه الإسرائيليون قبل عبور البحر مباشرة والمترجمة في التوراة العربية إلى «فم الحيروث»، ولأن «باخيت» بعيدة فيلولوجيا عن «بي هحيروث» فإنه يضع بينهما متوسطا مزورا لم يرد بحجر العريش هو «بي-خاروتي».»
ونستمر مع «فليكوفسكي»: «خرج ابن الفرعون صاحب السمو جب ليبحث عن أبيه، وقد أخبره شهود العيان بكل ما حدث لرع في بات نيبيس ... والصراع الذي خاضه الملك توم.» ولا شك أن المدقق سيتوه هنا وهو يحاول معرفة اسم ذاك الذي خاض الصراع وغرق في دوامات البحر، هل هو ملك باسم «رع» أم باسم «توم ». لكنه يعلمنا بعد ذلك أن أبناء «أبوبي» قد غزوا البلاد ليحطموها، وسلبوا الابن «جب» عرشه، بينما اعتزل هو في مسكن ناء، ربما كان منفى اختياريا أو إجباريا.
وبينما أهمل «فليكوفسكي» الاسم «رع» تماما كما لو كان غير موجود، فقد ركز على «توم»؛ لأنه الاسم الذي سيلتقي مع الاسم الوارد في التوراة، للمدينة التي استعبد الإسرائيليون في بنائها لفرعون الخروج، واسمها «فيثوم»، ويمكن نطقها «فيتوم» و«بي توم»، وفي هذه الحالة يصبح معناها «منزل توم». ولا ينسى أن يربط ببراعة، بين إشارة «مانيتون» المؤرخ المصري العظيم - الذي سبق أن هاجمه وسفه آراءه وتاريخه لكنه احتاجه الآن - إلى فرعون الخروج باسم «توتيماوس»، ويرى أن الاسم يحوي في تركيبه شقا هو «توم».
لكن أي مهتم بالتاريخ الديني لمصر القديمة، سيعرف كم كان «فليكوفسكي» ملفقا؟ وكم كان بارعا؟ لأن القصة المنقوشة على حجر العريش ليست سوى ترديد لأسطورة دينية قديمة، اعتقد فيها المصري منذ فجر التاريخ، وأن الأسطورة قد صيغت في أسلوب التعاويذ السحرية، التي يتم ترديدها في زمن محدد، لدرء خطر عظيم سيلحق بإله الشمس المصري، وبالتالي بمصر جميعا. وكان إله الشمس ذاك يحمل الاسم المركب «رع أنوم» أو «آتوم رع». ومنذ استقرار الإنسان في الوادي، أدرك أهمية الشمس في تجفيف التربة والمستنقعات، وفي نضوج النباتات، لذلك حظيت بأهمية بلغت بالشمس سمت السيادة بين الآلهة، وبحيث أصبحت الرب الرسمي للدولة. وقد ارتبطت الشمس بعناصر أخرى لازمة لحياة الإنسان والنبات، هي حسب أهميتها: الهواء، والرطوبة أو الندى، والتربة أو الأرض، والسماء التي هي مقر «رع آتوم». وفي واحدة من الصياغات الدينية لمدينة «أون» المقدسة، نجد إله الشمس يخلق من ذاته بالاستمناء - إيغالا في توحيده وحتى لا تكون له شريكة - إلها ذكرا هو «شو» إله الهواء، وإلهة أنثى هي «تفنوت» إلهة الندى أو الرطوبة. ويتزوج «شو» و«تفنوت» لينجبا إله الأرض «جب» الذي يحتسب وفق تلك الصياغة حفيدا لرع آتوم، وابنا ل «شو» و«تفنوت»، بينما في صياغة أخرى يأتي «جب» كأب لإله الشمس «رع ».
صفحة غير معروفة