واضح أن الرب «يهوه» هنا استجاب لدعوة الداعي بغضب، ولغضبه اهتزت الأرض والجبال، وفي حنقه ترك عرشه السماوي وركب كروبا (الكروب نوع من الثيران المجنحة، وهي بالقلب اللساني - الميتاتيز - تصبح بروكا أو براقا)، وهبط ينفث غيظه دخانا من أنفه ونارا من فمه. وهي صفات اعتيادية لرب التوراة يعرفها جيدا المعتاد على التعامل مع المقدس الإسرائيلي، فعادة ما يظهر الإله في صورة التنانين، وهي الصورة التي دفعت الباحثين، ودفعتنا (في كتاب: منابع سفر التكوين) إلى جمع الأدلة لتأكيد أنه ليس أكثر من رمز لقوى بركانية. لكن فليكوفسكي الذي انتوى «أن يجد لكل كلمة بالتوراة نظيرها في الواقع وفي التاريخ» وما يتبع ذلك بالضرورة من موضعة النص التوراتي وعقلنته؛ فقد قام من البداية «باستبعاد كل ما يمكن أن يعطي دلالات أسطورية»، هذا ناهيك عن كون هذا النص تحديدا من النصوص التي كتبت متأخرة عن كتابات أخرى بالكتاب المقدس، ويذهب الباحثون إلى احتمال كتابتها إبان أسر اليهود في بابل أو ربما قبله بقليل؛ أي إنها لا ترقى أصلا لعصر قائلها النبي «داود» في الألف الأولى قبل الميلاد. وحتى «لو» كانت نسبتها لداود صحيحة، وحتى «لو» كانت نسبتها للألف الأولى قبل الميلاد، وما قبلها بقليل صحيحة، وحتى «لو» دونت وقتها فورا «بالفرض»، وفي كل «لو» كسر لحقيقة علمية، فإن النص يبعد عن زمن الخروج، وحسب تزمينه هو للعصور حوالي ستة قرون كاملة، فهل يصلح للشهادة على واقعة مضى عليها ستمائة سنة قبل تدوين النص؟ مع ملاحظة أن كاتبنا لم يشر بالمرة إلى كل تلك الملابسات المحيطة بالنص، وإنما أورده كما لو كان شهادة شاهد عيان على الكارثة. أما الأجدر من كل هذا، ويدفعنا لنصح القارئ «بإلقاء تلك الشهادة في أول صندوق قمامة يقابله»، فهو ما جاء في مقدمة ذلك النص ويشرح الظروف التي قيل فيها؛ حيث يقول: «المزمور الثامن عشر لإمام المغنين، لعبد الرب داود، الذي كلم الرب بكلام هذا النشيد، في اليوم الذي أنقذه فيه الرب من أيدي كل أعدائه، ومن يد شاول.»
ولإيضاح المقصود في تلك المقدمة التي سبقت النص، نورد قصة من أطرف القصص التوراتية المقدسة؛ بإيجاز: بعد أن هزم الفلسطينيون بني إسرائيل أيام القضاة، اجتمعت قبائل إسرائيل وطلبت من القاضي الكاهن «صموئيل» أن يختار لهم ملكا كبقية الشعوب، يجمع صفوفهم وينظمهم ويقودهم بأسلوب الجيوش النظامية لحرب الفلسطينيين، «فالآن أجعل لنا ملكا يقضي لنا كسائر الشعوب» (صموئيل أول، 8: 5). فاختار لهم «شاول» كأول ملك لإسرائيل، وكان أهم صفاته التي أهلته للملك، أنه كان «شاب وحسن الصورة، ولم يكن رجل في بني إسرائيل أحسن منه، كتفه فما فوق كان أطول من جميع الشعب» (9: 2)، ودخل «شاول» عدة حروب منها حربه مع العمالقة التي اهتم بها «فليكوفسكي»، لكن شاول أبقى على الغنائم من الأطفال والبهائم، وأطلق سراح زعيمهم «أجاج» بعد إذلاله وكسر شوكته، فغضب يهوه على «شاول»؛ لأن أوامر الرب كانت: اذهب واضرب عماليق، وحرموا (أي «أبيدوا»، وهو اصطلاح توراتي معروف ومتواتر) كل ماله، ولا تعف عنهم، بل «اقتل رجلا وامرأة طفلا ورضيعا»، بقرا وغنما، جملا وحمارا» (صموئيل أول، 15: 2-3) (لاحظ أن فليكوفسكي «لا يأتي أبدا على ذكر بربرية بني إسرائيل الوحشية تلك بالمرة بطول كتابه، ولا يذكر شيئا عن إباداتهم للرجال والنساء والأطفال حتى البهائم»، لأي شعب يوقعه سوء الحظ في أيديهم، لكنه ينعى وينعب طوال كتابه على العرب الهكسوس، دونما دليل واضح على وحشية مشابهة اتسم بها الهكسوس تشابه وحشية وقسوة بني إسرائيل وربهم يهوه).
المهم أن الرب يغضب على «شاول» لرحمته بملك العماليق «أجاج»، ويسلط عليه عفريتا يلبسه؛ لذلك احتاج شاول إلى إقامة حفلات الزار بالطبول والزمور لتصرف عنه العفاريت، وكان رجل الزار هو «داود بن يسي إمام المغنين والزمارين»، الذي دخل البلاط ولمس حلاوته فطمح إلى الاستيلاء على العرش، بالتعاون مع الكاهن «صموئيل». وبدأ الصراع الذي انتهى بمقتل «شاول » وتسلق «داود» سدة الحكم، ومن هنا قام «داود» يغني على مزماره تلك الأنشودة، التي يقدم فيها الشكر للرب عرفانا، ولا علاقة لهذه التزميرة البتة بحدث الخروج، وقد أرفق «فليكوفسكي» معها شهادات أخرى، كالاستشهاد بمقاطع من سفر «أيوب» المتأخر بدوره عن الأحداث بما لا يقل عن ألف عام، من قبيل «وهو المزحزح الجبال ... إلخ»، وهي عبارات تجدها في التوراة بطولها، أو في أي نص ديني في أي دين آخر لتمجيد عظمة الإله، أي إله، وتصوير قدراته على اللعب بأركان الطبيعة الثابتة لإثبات ألوهيته.
وهكذا يعزف «فليكوفسكي» مع داود على مزماره مرة، وينوح مع بكائيات «أيوب» على حاله المتدهور وتوقعه تدخل الغضب الإلهي مرة أخرى، بنزوع غير خاف لنزع النصوص من سياقها، وتفريغها من دلالاتها الأصلية، لتشهد معه على حدث الخروج الأسطوري. (5) مناقشه الوثائق (5-1) تزييف دلالات بردية لايدن
من المعروف أن بردية لايدن «إبيور» قد نسخت من قبل شخص عاش في الأسرة الثامنة عشرة أو بعدها، عن أصل يعود إلى بداية العصر المتوسط الأول بعد الدولة القديمة، وقد انتهى إلى هذا الرأي - بقرائن لا تهم تفاصيلها إلا المصرولوجيين (السير ألن هنري جاردنر)، ووافقه عليها بعد نشره الترجمة كاملة جمهرة العلماء. والبردية على حالها الراهن تتكون من أربع عشرة صفحة، تشمل فقرات نثرية، وست قصائد شعرية طويلة، وربما كان من الأفضل هنا استحضار كلام «جاردنر» نفسه حول تلك البردية حيث يقول: «إن الفوضى التي ظلت قائمة بصفة مستمرة أو متقطعة حتى الأسرة الحادية عشرة، إنما هي صورة لثورة حقيقية انطبعت في أعجب وأهم بردية من الأدب المصري، الذي استطاع أن يبقى رغم مخاطر الأيام، «ولا ترجع هذه البردية المحفوظة في مجموعة لايدن إلى ما قبل الأسرة الثامنة عشرة»، ولكن حالة البلاد التي تناولتها بالوصف، لا يمكن أن تكون من وصف خيال قصاص أو راوية، ولا هي تصلح لأن توضع في أي مكان من التاريخ المصري، سوى «الفترة اللاحقة لنهاية الدولة القديمة». أما المقدمة فضائعة لسوء الحظ، وقد فقد معها كذلك تسجيل الظروف التي دفعت المتحدث لإلقاء عظته، وهناك أول الأمر مجموعة كبيرة من الفقرات المختصرة تصور حالة الدمار والغزو، التي سقطت البلاد فريسة لها نتيجة عدوان مغامرين منحطي الأصول، وآسيويين يشقون طريقهم إلى الدلتا ... إنها تعكس صورة لما آلت إليه الأرستقراطية المنهارة ... أما الملك الذي يهيل إبيور اللوم على رأسه من جراء ضعفه وتراخيه، فربما كان من آخر فرع بين الملوك المنفيين (آخرهم هو آخر ملوك الأسرة السادسة بيوبي/بيومي الثاني، والإضافة من عندنا) ومهما كان من أمر، فإنه لا نزاع في أصالة بردية لايدن وصدقها، من حيث هي وصف لمصر في العهد الوسيط الأول.»
3
وكان حريا بأي باحث غير متخصص في المصريات وأركيولوجيتها، أن يترك الأمر لأهل مكة فهم أدرى بشعابها، وربما جاز له أن يأخذ بأرجح الشهادات، ليبني بعد ذلك عمله أو كشوفه، لكن «فليكوفسكي» ليس باحثا عادي؛ لذلك رفض كل ما قيل بشأن تلك البردية وركن إلى احتمال ضعيف قدمه «زيته»، ومن ثم رفض نسبتها للعصر المتوسط الأول، وألحقها بالعصر المتوسط الثاني؛ لأنها في هذه الحال ستوافق ما ذهب إليه. بينما نحن سبق أن أقمنا عملا كاملا تأسس على إشارات ل «جاردنر ووبيت وبرستد وإرمان وسليم حسن ونجيب ميخائيل وعبد العزيز صالح ... إلخ»، وهي شذرات تشير إلى تصوير البردية لحال يبدو «كلون من ألوان الثورة، ثم» أقمنا عمد العمل وجمعنا له الدلائل والشواهد مع ما لحقها من استنتاجات؛ بحيث أثبتنا في كتابنا «رب الثورة: أوزيريس عقيدة الخلود في مصر القديمة»،
4
أن الظلم الذي حاق بالجماهير في عصر بناة الأهرام، والفوارق الطبقية الهائلة التي اكتمل نضجها في ذلك العصر، أدت إلى ثورة شعبية عارمة، كانت هي السبب في سقوط الأسرة السادسة والدولة القديمة، وأن بردية «إبيور» ليست سوى واحدة من رجع الصدى الأدبي لتلك الأحداث الجسام.
وهنا أجدني مضطرا لتقديم اعتراف متواضع، مضمونه أني ما كدت أنتهي من قراءتي الثالثة لكتاب عصور في فوضى حتى كان «فليكوفسكي» قد أنشب كل إمكاناته وبراعته في دماغي، حتى وصلت إلى لحظة كادت تكون هي التسليم له بكل ما ذهب إليه؛ ومن ثم كان لا بد أن أعيد النظر فيما سبق أن وصلت اليه في أعمالي المنشورة لي على الأقل، وأن أعلن في أقرب مناسبة تراجعي الكامل عن كل ما وصلت إليه في أبحاثي من باب أمانة واجبة علميا، كما كان ينبغي إذا أردت الاستمرار أن أبدأ من نقطة الصفر مرة أخرى، وأعيد النظر في كل ما وصلت إليه حتى الآن في قراءتي للتراث. وهذا طبعا عدا كم المعاناة التي عشتها ما بين انتماءاتي الوطنية، وبين إصراري على التزام نتائج العلم الصادق - وهي ما تصورت «فليكوفسكي» قد انتهى إليها - حتى لو خالفت أشد الأمور حميمية، وكان الحل هو العزوف الكامل عن البحث والدرس بشكل نهائي.
صفحة غير معروفة