نحن إذن بإزاء كاتب ألجأ علماء الدنيا للتخلي عن موضوعيتهم وحيادهم ووقارهم العلمي، والتحول إلى استخدام أساليب قمعية إزاءه، عندما لم يجدوا لديه تزييفا في الوثائق، أما لماذا كل ذلك الهجوم الذي تعرض له كاتبنا؟ فيرجع - فيما يوعز به للقارئ - إلى أن كتابه احتسب مروقا على الدين، وتجديفا على الملة اليهودية، وهو ما يتضح بقوله في المقدمة: «لقد كان حراس العقيدة، وما زالوا، متحفزين دوما لمهاجمة أي جديد وإدانته بأساليب رجعية، بعيدة عن الحجة الموضوعية وعن النقاش، فضلا عن تحقير صاحب كل فكر جديد في أعين الرأي العام، وفي مسوح من يريدون إظهار كم هي خطأ تلك الأفكار المتمردة والمنشقة عن الدين.» وهكذا فالكاتب يطمئن القارئ على أمرين: الأول: أن الذين يهاجمونه رجال دين تقليديون متعفنون يترصدون لكل جديد بعقلية متخلفة، وبذلك يكسب أشد القوى استنارة؛ لأن معنى ذلك اتخاذه موقفا، علميا موضوعيا لا ينحاز لرأي أو عقيدة. أما الثاني، فهو أنه سيقول ما يعتبر تجديفا في عرف بني ملته، وأنه قد قبل بذلك الموقف التزاما من جانبه لوجه الحق ولوجه العلم بغض النظر عمن سيغضب ومن سيرضى.
وبين المقدمة والتمهيد، يعمد إلى فصل يبدو كنتوء مقصود تحت عنوان «اعتراف بالفضل»، وهو ما اعتدنا كباحثين إدراجه بالمقدمات، لتقديم التقدير لمن ساهم في إنجاز البحث وقدم العون للباحث. لكن «فليكوفسكي» قصد ما هو أكثر من تقديم الامتنان؛ حيث أورد مجموعة أسماء لعلماء ومتخصصين في صيغة الشكر على المعاونة، لكنها ملتبسة بما يشير إلى موافقتهم على عمله واقتناعهم بفروضه ونتائجه، وبشكل لحظنا فيه ما لا يبدو واضحا من التواء يعسر مؤاخذاته عليه. وخرجنا بنتيجة مفادها أنه لا العلماء المذكورون وافقوا وأيدوا، ولا هم - في ضوء الأسلوب الملتوي - بقادرين على الاحتجاج، ولا القارئ سيلتفت إلى الخدعة المبيتة، ونضرب لذلك أمثلة لأهميتها كنموذج لأسلوبه الذي احتذاه بطول كتابه:
يقول: «أشعر بامتنان أيضا للدكتور «والتر فيديون» بمعهد دراسات آسيا بنيويورك، الذي لم يتوان عن مد يد العون بمعلوماته الغزيرة عن الأدب القديم، ويزيد من إحساسي بالعرفان أنه لم يحاول أبدا أن يقدم نفسه بأي شكل على فرضياتي الخاصة بالكتاب. «ولقد اقتضى الأمر ما يزيد على ستة أعوام، حتى اقتنع» وأقر بأن التاريخ التقليدي كما نعرفه، غير مبني على أسس ثابتة.» ولا أخفي القارئ سرا، أني لم يصادفني إطلاقا عالم باسم «والتر فيديون»، واحتسبت ذلك للوهلة الأولى تقصيرا ينبغي تلافيه، أما كلام فليكوفسكي فيشير إلى اقتناع «د. فيديون» أخيرا برأي «فليكوفسكي» وموافقته على إعادة صياغة التاريخ المبني على أسس غير ثابتة. ومع قراءة متأنية تكتشف أن «فيديون» كان لديه تحفظات وأراء ترفع بها عن الإقحام في عمل «فليكوفسكي»، لكن الأهم هو أن فيديون احتاج ست سنوات ليقتنع أن التاريخ القديم يقوم على «أسس غير ثابتة»، أما التعبير الأصدق «غير يقينية أو قاطعة»، وهو أمر معلوم لدي جميع العارفين بذلك التاريخ، ويعلمون أيضا أن ذلك ليس لعيب فيه أو خلل ينتظر «فليكوفسكي» ليصلحه، إنما هو ناتج حلقات مفقودة لم تقدمها لنا الحفائر الأركيولوجية حتى الآن، والتي تقدم كل يوم جديدا يملأ مثل تلك الثغرات. والقول باحتياج «فيديون» لست سنوات للاقتناع بفرضية الكتاب، أسلوب فيه التواء يسمح بتسرب المعنى الآخر للذهن، لكن إن كان حقا، قد احتاج «فيديون» ست سنوات ليقتنع بأمر معلوم، فربما فسر لنا ذلك أننا لم نسمع به من قبل بين العلماء المتخصصين.
ثم يقول: «كما أدين أيضا للدكتور روبرت ه. فايفر، المرجع الفذ لدراسات الكتاب المقدس، ومدير بعثة التاريخ القديم بجامعة بوسطن، ومحرر جريدة الكتاب المقدس، ومؤلف العمل المميز عن العهد القديم (لاحظ الألقاب التي يعددها فليكوفسكي للمرجع الفذ، محذرا فيما يبدو كل من لا يحمل مثلها من محاولة التعرض له)، وهو من الشخصيات التي يركن إلى آرائها. إن فايفر اقترح علي أن أحاول إثبات فرضياتي على أسس من الوثائق الآثارية، وهو ما أخذت به.» وهنا واضح من رؤية فايفر ما يشير إلى خلل تلك الفرضيات، وعدم قناعته بما قدم كاتبنا، مع رفضه التورط بالتأييد لفليكوفسكي.
وللاختصار نصل مباشرة إلى قوله: «كما قرأ أيضا البروفيسور ج. جارستانج المنقب في آثار جيركو، النسخة الأولية للقسم الأول (الذي نحن بصدده)، وأقر بأن وصف الوثائق المصرية القديمة للكارثة التي صاحبت الخروج، يتطابق تماما مع وصف الكتاب المقدس، مما يثبت أنهما وصفان لحدث واحد.» وهنا أرى من واجبي الإشارة إلى أن «جارستانج» هذا هو صاحب كشف لجعران في «جيركو/أريحا» وأن هذا الجعران المصري عليه كتابة تشير بالقطع وباليقين أن النبي موسى هو ابن الفرعونة «حتشبسوت». بينما ثبت أن تلك كانت أكبر تلفيقة في تاريخ علم الآثار، وكارثة علمية حقيقية.
لكن قبل البدء في التعامل مع «فليكوفسكي»، نؤكد مرة أخرى أنه عقل من نوع نادر، «ولا يصح بحال مقارنته بالمضحكات المبكيات فيما قدمه باحثونا بذات السبيل عن تاريخ بني إسرائيل وعقائدهم، وهي أعمال تنضح بالعنصرية وتدعي العلمية، لكنها بجوار عمل كهذا تصبح لونا من خطب أيام الجمعة، وصفحات الإنشاء القلقشندي»، الذي لا يؤثر إلا منفرا، ناهيك عن سطحيته وسذاجته، وما يتركه من انطباعات أن تلك الأعمال كانت لديهم اهتماما جانبيا؛ لأنه لا يصح - إيمانيا - إلا الصحيح، وأن عقائد بني إسرائيل وتاريخهم لا يحتاج لأكثر من جرة قلم وينتهي الأمر
2
هذا بينما كرس «فليكوفسكي» عمره كله من أجل عمله هذا، فأين نحن من ذاك؟ استفسار - لا شك - أشد سذاجة من أعمال باحثينا.
لقد بدأ «فليكوفسكي» من حدث الخروج، والأحداث التي صاحبت ذلك الحدث، وبنى كل عمله على التأريخ لزمن الخروج، الذي استدعى بدوره إعادة النظر في تاريخ المنطقة برمتها، بعد كشفه لخطأ هائل، سببه ذهاب التاريخ التقليدي إلى كون ذلك الخروج قد حدث في عصر الدولة الحديثة (الإمبراطورية) بينما هو حسب إعادة الصياغة والتزمين، ينبغي الرجوع به إلى العصر المتوسط الثاني، مع نهاية الأسرة الثانية عشرة في الدولة الوسطى. مما يشير إلى أن دخول بني إسرائيل إلى مصر يجب أن يكون قد سبق ذلك الزمن بفترة مناسبة، معتمدا خلال ذلك كله على قياس تلك الفترة الزمنية مقارنة بالكتاب المقدس، الذي أثبت صدقا مذهلا، وتطابقا يفوق الوصف مع الوثائق التي اكتشف «فليكوفسكي» أنها تشهد بأحداث الخروج . (4-1) لكن ماذا عن الدخول؟ «إن «فليكوفسكي» لا يتعرض لهذا الأمر بالمرة ولا مرة!» وهو الأمر الذي يضع عددا من علامات الاستفهام، ودونه لا يمكن البدء في التعامل مع حدث الخروج وباقي عمل «فليكوفسكي» المثير.
وحدث الدخول يبدأ من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر، وأبيهم (يعقوب) الملقب بإسرائيل، ومع بداية الإصحاح 37 من سفر التكوين، حيث يلقي الأسباط المكرمون بأخيهم المميز (يوسف) في بئر، حيث تلتقطه قافلة تجار «إسماعيليين» أو «مديانيين» - يتضارب الكتاب المقدس هنا - وتبيعه لفوطيفار رئيس شرطة مصر. إلى أن يعلم الفرعون بقدرات يوسف على التبصير وقراءة الطالع في الأحلام فيقربه منه، وبمهارة يوسفية يتمكن ابن إسرائيل ذو الجمال الأخاذ من الوصول إلى كرسي وزارة خزانة مصر، ويرسل في طلب أبيه وإخوته ليقيموا معه في بلاد النيل، ويستقر الرعاة في مصر، وكانت «جميع نفوس بيت يعقوب التي جاءت إلى مصر سبعون» (46-37) و«سكن إسرائيل في مصر في أرض جاسان» (47-27)، «ثم مات يوسف وهو ابن مائة وعشر سنين فحنطوه ووضع في تابوت في مصر» (50: 26).
صفحة غير معروفة