في ذات اللحظات كانت قطع من الحديد الضخم تعبر أجواء العراق (كروز وأخواته)، تعلو فوق بناء عال وتمر فهو ليس المطلوب، وتنحرف عن شجرة تعترضها، لتنفجر فقط عند هدفها المحدد. لقد قرر الإنسان الراقي أن يحمي إنسانه الراقي ومواطنه المنتج؛ لأن قيمة الإنسان أثمن من كل مال؛ لذلك أرسل بدلا منه قطع الحديد التي تكلفت المليارات، بعد أن وضع لها العينين ومنحها الذكاء والفهم، وكان الدافع لاختراعها أصلا هو الحرص على قيمة الإنسان، فهلا تساءلنا في بلادنا عن قيمة الإنسان؟ وعن الإنسان في بلادهم، وعن الإنسان في إسرائيل التي لا تهدأ حتى تحصل على مواطنيها الموتى لتكرمهم؛ فهو إنسان كريم في حياته كريم في مماته؛ فهو الصانع المنتج الحر، هو الأمة في واحد. هذا بينما المهيب الركن يحتفل بعيد ميلاده ودماء مواطنيه لم تجف بعد، فالمواطن يمكن تعويضه دوما، أما العرش فصعب؟! ثم كيف بالزعيم الملهم إذا أزعج نفسه لا قدر الله وتكدر لمصاب شعبه؟
كذلك يمكن تعويض محمد الدرة ورفاقه من أطفال وصبايا وشباب وشيوخ الانتفاضة، هم في نظرنا أدوات رجم تثبت أننا صامدون أمام العدو المتغطرس من باب الراحة النفسية. ليسوا أبدا قيمة عظمى في ذاتهم يمكن استثمارها لنبني بهم مستقبلا أفضل حين نقرر احترام الإنسان لذاته، وأن نفتح عليه أبواب العلم ونوافذ الحرية.
لقد درسنا الإسرائيليون درسا عميقا وعرفوا كيف نفكر وما هي ردود أفعالنا، ومن هنا دفع اليمين بشارون بالتحديد وبالذات لزيارة المسجد الأقصى مستغلا قانون حماية الوزراء، في حراسة ألف جندي، أو أربعة آلاف في رواية أخرى، والله أعلم ... بعد أن تمكن الفلسطينيون من الوصول مع الإسرائيليين إلى بحث قضايا اللاجئين والحدود والمستوطنات، وقبلها مبدأ قيام دولة فلسطينية، مع اعتراف إسرائيلي مواز بها، وتراجع إسرائيل عن استخدام تعبير «يهوذا والسامرة»، مع الانسحاب على مراحل، إلى التفاصيل الدقيقة بشأن الحدود وتوزيع المياه وغيرها. وهو ما ألهب اليمين الإسرائيلي الذي يرى منافعه مع الغرب المتقدم، ولا يرى أية ميزة في سلام أو علاقات مع العرب، من حزب شاس إلى ليفي إلى المفدال. ومع بدء باراك المحادثات بعد فوزه الديمقراطي من أجل السلام أو الأمن، قدم اليمين السلفي عدة مشاريع لحجب الثقة عن حكومته حتى انتهت بلا أغلبية برلمانية. لقد أنجز اليمين الإسرائيلي خطته بزيارة شارون للمسجد وترك الباقي للعرب يتكفلون به. وعندما حدث رد الفعل العربي، وقف عالم العرب والإسلام عند المسجد الأقصى يزأر (يزأر فقط)، بينما لجأ باراك للقمع العنيف إنقاذا لحكومته كما فعل سلفه بيريز في قانا فسقط، ويبدو أن باراك سيلحق به ليطل علينا شارون القبيح، وساعتها نكون قد جلبنا لأنفسنا النكسة الكبرى.
يا سادة إن لم يكن التغيير في بلادنا ممكنا الآن من أجل إنسان كريم في وطن عزيز ومن ثم قوة وتقدم، فلا يمكن ترك الفلسطينيين يذبحون بلا ثمن. ومن هذا الفهم لا بد من العمل العاقل الرشيد والدءوب باستخدام الديمقراطية الإسرائيلية في الداخل لتأتي لنا بأنصار السلام على رأس الحكومة. إلى أن نتمكن من إقامة حلمنا في مجتمعاتنا المدنية على المدى البعيد. وحتى يحدث ذلك فقضية فلسطين قائمة والانتفاضة تستنزف دماء أبناء فلسطين ومن هنا لا مناص من العودة بشكل منظم ومدروس إلى طاولة المفاوضات، لنمارس المعادلة الموجعة المضطرة؛ فيجب ألا تتوقف الانتفاضة وبمعنى آخر يجب ضبط إيقاع الانتفاضة وفق الاجندة الفلسطينية للمباحثات، وأن يتم توزيع الأدوار بين الفصائل والسلطة بذكاء وحصافة، حتى يكون لكل نقطة دم ثمنها المناسب.
لا مفر يا سادة من العودة إلى طاولة المفاوضات حتى لا نترك القرار لإسرائيل وحدها تنفذه حسب مشيتها ولو كره المسلمون. مفاوضات تستند إلى قوة الشارع الفلسطيني وإرادته وتصميمه الذي لا يجب أن يخمد أبدا، قبل الاستناد إلى شرعية دولية لا نملك قوة تفعيلها.
أما الدعوة إلى الحرب فقد أجاب عليها الرئيس مبارك بصدق ووضوح كاشف وأمانة وشفافية تامة، وهي جرأة لزعيم وقائد يعرف معنى الحرب الآن وفي ضوء الظرف المحلي والدولي. رؤية تفتح باب الأمل في الاعتراف العربي بالأخطاء ومراجعة الأمراض الدفينة في مناهجنا، قبل التفكير في البناء السليم، فما بالكم بالحرب؟! (7) أدلتنا التاريخية
كتب الدكتور «عز الدين عناية» في صحيفة القدس العربي (12 / 10 / 2000م) يقول: «إذا حضرت الأيديولوجيا وغاب الإنسان، تجد النواة الأولى التي ينبني عليها التاريخ - الفرد الإنسان - أكثر الأشياء دونية وترزيلا عندنا، مع أكثر ممارسات التفنن في اغتيالها، مما حول الإنسان إلى منسي. لذلك فالشيء الوحيد الذي يتخلف عندنا هو التقدم، حتى أصبح المجتمع العربي بمقتضى ذلك، يحتل أدنى درجات التردي. ليس بفعل قصور حضاري ذاتي، بل نتاج تأهيل خاطئ مورس عليه، مضاد لكافة أشكال النماء والتقدم ... من كذب الذات على نفسها، إلى كذبها على الآخرين، والتي تقف فيها ال... نحن ... عارية سافرة أمام التاريخ. طارحة السؤال الثقيل على نفسها، سؤال ضياع الكينونة ولفظ التاريخ لها.»
وتصديقا لكلام الدكتور عناية، ومصداقا له، نحاول أن نبحث عبثا عن الإنسان في الخطاب العربي السائد الآن، مع انتفاضة التحرير المسماة انتفاضة الأقصى، فلا تجد الإنسان أبدا قدر ما تجد نهاية طرف الخيط للخطاب القديم في تاريخنا التليد سنحاول هنا اختيار أكثر الأقلام وسطية في صحفنا، لاكتشاف بنية التفكير إزاء عدو غاشم واحتلال أغشم.
بعد أن يقدم لنا الأستاذ «صلاح الدين حافظ» في الأهرام (6 / 9 / 2000م) أدلته على حقوقنا التاريخية الدينية في القدس وفلسطين، يثني بالقول: «إن الحكم اليهودي للقدس خلال الثلاثة آلاف عام الأخيرة لم يستمر سوى 600 عام متقطعة. بينما أسطورة الهيكل المقدس ... كانت قد انتهت منذ ألفي عام، وتحديدا منذ عام 70 ميلادية، عندما هدم جنود الإمبراطور الروماني هيرودس ما كان اليهود يعتقدون أنه الهيكل. ولكنهم ظلوا معلقين بالأسطورة التلمودية فجعلوا من الحائط الغربي للمسجد الأقصى - حائط الدراق - أثرا باقيا من آخر آثار الهيكل، أسموه حائط المبكى. وادعوا أن أساسات الهيكل تقع تحت المسجد الأقصى.»
وبغض النظر عن خطأ الأستاذ صلاح حافظ في تسمية الشخصية التاريخية التي قامت بتدمير الهيكل (والمرجح أنه لون من السهو المباح)؛ حيث كان مدمر الهيكل هو القائد الروماني طيطس، أما هيرودس فشخصية تاريخية أخرى حكمت في فلسطين منوبة من الرومان زمن المسيح عليه السلام فإن هناك أسئلة أكثر شرعية تطرح نفسها إزاء هذا الخطاب، ومن بينها: هل تعود مشروعية امتلاك الأرض إلى مدة حكم طائفة بعينها أو عرق من عروق سكان الأرض أو من خارجها؟ وما موقف مصر التي لم يحكمها مصري واحد لأكثر من ألفي عام؟ أم إنه يجب نسبة الأرض لشعبها وناسها الذين منحوها عرقهم ودمائهم وجعلوها أرضا منتجة بغض النظر عن الطائفة أو العنصر، حاكما أو محكوما أم دخيلا؟
صفحة غير معروفة