فطلاب الواقع يقولون بطاعة السلطان القائم، وطلاب التغيير يقولون بطاعة الإمام المستتر، ويقولون بعلم الظاهر وعلم الباطن، أو بعلم الحقيقة وعلم الشريعة، أو بالفرق بين الكلام الواضح الذي يفهمه الدهماء والكلام الخفي الذي يفطن له ذوو البصر والاطلاع.
ويروى عن الإمام الباقر أنه قال: «إن اسم الله الأعظم ثلاثة وتسعون حرفا يعرف منها سليمان حرفا واحدا، تكلم به فأتي إليه بعرش مملكة. ونحن عندنا منها اثنان وسبعون حرفا، وحرف عند الله استأثر به في عالم الغيب وحده.»
ويدور على هذا المحور من جانب آخر خلاف القائلين بإسلام بني أمية والقائلين بتكفيرهم والقائلين بإرجاء الحكم عليهم إلى يوم القيامة، وهم أصحاب الفرقة التي اشتهرت باسم المرجئة من أوائل فرق الإسلام.
ويغلو من هنا فريق كالخوارج، فيكفرون عليا ومن والاه، ومن هنا فريق كالسبائية، فيؤلهون عليا، وينكرون القول بموته، وإنما شبه للناس؛ فقتل ابن ملجم شيطانا تصور بصورته، وصعد علي إلى السحاب، فالرعد صوته، والبرق سوطه، وموعده يوم يرجع فيه إلى الأرض فيملؤها عدلا ويقضي على الظالمين. أو يقولون كما يقول البنانية أتباع بنان بن سمعان: إن روح الله حلت في علي، ثم في ابنه محمد بن الحنفية، ثم في ابنه أبي هاشم ثم في بنان، أو يقولون بتناسخ الأرواح من آدم إلى علي وأولاده الثلاثة، أو يقولون - كما قالت الإمامية - إن الله قد حل في إمام بعد إمام إلى أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة العباسية، وإنه لم يقتل، ولا يجوز عليه الموت، وفيه روح الله.
ويكثر الكلام بين هذه الفروض والظنون على ماهية الروح وماهية الحقيقة الإلهية وما ينبغي لله جل وعلا من التنزيه وما يمتنع في حقه من التجسيم والتشبيه، وتمتزج النوازع الذهنية بنوازع المصلحة والسياسة والعواطف المكبوتة، فيستمد كل منها عونا من الآخر على الإقناع واستجلاب الأنصار والأشياع.
ومن البديه أن دعاة التغيير يتقون - جهدهم - سلطان الواقع حيث هو قائم عزيز الجانب مبثوث العيون، فابتعدوا من دمشق الشام، واتخذوا لهم ملاذا مأمونا عند أطراف الدولة الشرقية فيما وراء النهر خاصة، كما كانت تسمى في تلك الأيام.
هنالك لم يكن أحد من المتعلمين يشتغل بالأمور العامة دون أن يعرض له البحث في الشريعة والحقيقة، والظاهر والباطن، وأقوال المختلفين على القضاء والقدر وعلى صفات الله وحرية الإنسان وماهية النفوس والأرواح، وما يصح أن يفرض عليها من العقاب أو تجزى به من الثواب، وكل أولئك هو موضوع الفلسفة الأصيل، وقد تسرب إلى خراسان من مراكز الدولة الإسلامية ومن تراث الأمم الخالية، ثم أعانه جوار الهند بمورد آخر من موارد الحكمة والعلم التي لا تزال مشغولة بأشباه هذه البحوث.
ولما ذهبت الدولة الأموية وقامت الدولة العباسية لم تتبدل الحال في تلك الأرجاء؛ لأن العلويين والعباسيين على السواء خبراء بالمذاهب والتفسيرات، وكلهم من أنصار النظر والاستدلال. وقد قامت الدعوة في الشرق باسم آل النبي، قبل أن تقوم صريحة باسم بني العباس، ثم زيد على الأطراف التي تتطلع إلى التغيير طرف آخر في أفريقيا الغربية بعد قيام الدولة العباسية، فقامت هنالك دعوة الفاطميين، وعرفت سبيلها إلى أقصى المشرق حيث كان الناس يؤثرون العلويين على العباسيين، ولا سيما بعد تشريد أبناء علي وحرمانهم واضطهادهم في أيام بني العباس.
فأصبحت الأطراف الشرقية وكرا يسمع فيه كل صوت من أصوات البحث والنظر والاستدلال.
الفصل الثاني
صفحة غير معروفة