بكثلكة ممزوجة بالتخريف والتصوف، تأصلت في أرضهم فأضعفت في منتحليها مادة العقل والتفكير. وقال كارلي الإيطالي بعد أن ذكر كيف انحط الإسبانيون بسرعة بعد فتوح أميركا: إنهم أخذوا يحتقرون الأعمال اليدوية، فزاد الشقاء، وكثر التشرد والجرائم، وهذه علامة انحطاط قيم الأمم، وهذا هو الخراب بجملته وتفصيله.
نعم، لو قرأ الناقد شيئا مما كتب في الإسبان لأيقن أن ليس التنافر على أتمه بين ابن الشمال وابن الجنوب فقط، بل بين أهل المدن المتجاورة، وعلى كثرة تحمس الفرد للوطنية، لا تتعدى حماسته أسوار بلده، خلافا للفرنسيس والإنجليز والألمان والطليان وغيرهم من الأمم الكبرى، وتاريخ هذه الأمة سلسلة من التعصب الديني الذميم، استعملوا النار والحديد في الدعاية للدين، واستكثروا من الرهبنات، حتى كان الرهبان إلى أمس الحاكمين المتحكمين في البلاد، يملكون ثلث أرضها، ويأخذون شطرا عظيما من موازنتها، وجاء زمن كانوا يحظرون فيه الاستحمام على الناس؛ لأنه يشبه الوضوء عند المسلمين بزعمهم، فكثرت الأمراض الجلدية، وتعذر على الأطباء أن يصفوا لمرضاهم النظافة والاغتسال؛ مخافة أن يفشوا أمرهم فيما يقترحون، ويقعوا، بدعوى مروقهم من الدين، تحت طائلة العذاب. وإلى اليوم ينقص القوم كثير من المبادئ الأولية الشائعة بين الأمم الراقية؛ فتراهم يدخنون في كل مكان خاص وعام، ويبصقون في القطار والمقهى والنزل والفندق والبيع، على صورة تشمئز منها النفس، فالقذارة عندهم فاشية، والجهل والتشرد من الأمور المتعارفة، والتواكل والتوكل لا تشبههم فيهما أمة راقية.
وإذا كانت كل هذه الإشارات لا تكفي لبيان حال الإسبان؛ فاسمعوا ما يقوله لبون: «ساعد الإسبانيين الاختلاف الطارئ بين العرب؛ فوفقوا بعد غارات طويلة إلى تأسيس عدة من الممالك الصغرى، كانت تتسع رقعتها كل يوم، ولما كتب للمملكة الإسبانية بعد حروب ثمانية قرون، أن تستولي على عاصمة آخر مملكة عربية، أي غرناطة، ووحدت ممالك الجزيرة تحت لواء واحد، ظهرت إسبانيا في الحال في مظهر أول دولة حربية في أوروبا، وكان شارلكان وفيليب الثاني بعد فرديناند على جانب من المهارة السياسية، وكان القرن الذي انقضى من الاستيلاء على غرناطة إلى وفاة فيليب الثاني، عهد عظمة لإسبانيا لن ترى مثله، والعرب خلال هذه المدة بين صعود ونزول، تركوا وشأنهم في تلك الأصقاع، وكان من تفوقهم العلمي أن أصبحت لهم مكانة سامية، فكان العلماء وأرباب الصنائع والتجار في البلاد من العرب، وكانت كل حرفة ما عدا حرفة الراهب والمحارب مما يحتقره الإسبان، وبعد أن فقدت إسبانيا عظماء رجال الحرب الذين توالى قيامهم على رأسها مدة قرن، ساغ أن يقال: إنها حرمت القوة الحربية بهؤلاء، والقوة المدنية بطرد العرب؛ فباد فيها كل شيء، وسرعان ما سرى إليها الانحطاط بعد طرد العرب وتقتيلهم، وليس في التاريخ مثل إسبانيا شعب انحط إلى مثل هذه الهوة السحيقة، في مثل هذه المدة القصيرة ... هوت في سنين قليلة إلى أحط درجات السقوط، وفقد من بنيها الحزم والنشاط، حتى آلت بها الشقوة إلى أنها لم تنتفض من عوارضها إلا باستيلاء الأجنبي عليها، وتخلت عن سلطانها السياسي والإداري والصناعي والتجاري، فكان الفرنسيس والطليان والألمان وغيرهم، هم الذين يتولون كبر هذا الأمر فيها، جلبت إسبانيا العلماء وأرباب الصنائع من الخارج، ولكن كيف السبيل إلى إحياء الموتى، فقد ذهبت العرب، وقضى ديوان التحقيق على كل من كان من الذكاء في درجة فوق المتوسطة، فكان فيها سكان، ولكنها فقدت الرجال. وكانت جميع كتب الإسبان كتب عبادة وتبتل وزهد، ولم يبق فيها كيماوي يعرف البسائط من هذا العلم، وما كشف أوائل القرن الثامن عشر في الغرب، كان الإسبانيون بمعزل عنه لا علم لهم به، بل لا علم لأطبائهم بمسألة دوران الدم حتى بعد قرن ونصف من كشفه، وقد اقترح بعضهم مرة رفع القمامات من أزقة مجريط سنة 1760؛ لما كان ينبعث منها من الأمراض، فقام ديوان الصحة يمانع في رفعها، قائلا: إن أجدادهم كانوا على جانب من العقل يعلمون ما يبرمون، وما حاولوا جمع القاذورات قط، وعاشوا وسطها، فعلى أبنائهم أن يسيروا على مثالهم؛ لأن إزالة الأوساخ قد تحدث منها أمور لا يعرف ما يكون منها.»
قال: لقد بذل كثير من المساعي المحمودة، ولما تهب هذه البلاد من سباتها، وإلى اليوم لا تزال الصنائع والزراعة مفقودة فيها، وأهلها في كل ما يتجاوز القدرة المتوسطة، عيال على الغريب، فالغرباء يديرون معاملها، وينشئون خطوطها الحديدية، ويأتونها بالميكانيكيين يسيرون قطاراتها، وكل ما فيها من العلم والصنائع هي فيه حكرة للأجنبي، ومهما بلغت حكومة من قوة فيها، فهي عاجزة أمام هذه الحال، وما من بلد يحكم بغير رأي أهله، ومهما بلغ من انحطاط الحكومة في إسبانيا فالشعب فيها أحط. إسبانيا أحرزت ظواهر خارجية من المدنية، وليس فيها غير الظواهر، والجهل ضارب سرادقه فيها، على نحو ما كان في القرون الوسطى، وإذا عاد ديوان التحقيق الديني إلى عمله، يجد اليوم الاستعداد له في كل طبقات الأمة. ا.ه.
وقال لبون
29
أيضا: «تقدر أخلاق كل شعب بما رزق من أخلاق خاصة؛ فإذا كان ستون ألف إنجليزي يخضعون لسلطانهم ثلاثمائة مليون هندي يساوونهم في الذكاء، فذلك بفضل صفات خاصة في الفاتحين، وإذا كان الإسبان لم يستطيعوا أن يأتوا غير الفوضى في الولايات اللاتينية في أميركا، فذلك لنقص في أخلاقهم.»
قال: «وإذا كانت جزيرة كوبا تحت حكم الإسبان لم تر مدة ثلاثة قرون غير الظلم والفوضى وإهراق الدماء حتى أقفرت، وانقلبت في بضع سنين تحت حكم الأميركان جنة أرضية، فذلك لتفوق العنصر الأميركي، وصلاحه للبقاء وإعمار الأرض، أكثر من الإسبان.» ثم إن تاريخ كل أرض حلها الإسبان وطردوا منها - وما أوسعها في أوروبا وأميركا وغيرهما - حلقة من المظالم والمغارم لا يتصورها العقل.
هكذا يقول من يكتبون للحقيقة والتاريخ، أمثال الفيلسوفين المحدثين فوليه ولبون، أما ذاك الروسي المتحمس للإسبان فلا يرضيه إلا أن نصانعهم ونعترف برقيهم؛ لأنهم خرج منهم فلان الباحث، ولكن فوليه يقول: إن إسبانيا لم تخرج إلى اليوم فيلسوفا يذكر، بل أخرجت رجالا نصفهم فلاسفة ونصفهم لاهوتيون. وقال غيره: إنها لم تنشئ مؤرخا واحدا، وذلك أنك بينا ترى مؤرخهم يسرد تاريخه، إذا هو شاعر يخطب، وأديب يبالغ، ومع عادة صراع الثيران المألوف عندهم، على ما كانت عادة إحراق المتهم بدينه بالنار، لا ترق حاسة ولا يرتقي شعور، ولا يتأتى من عادة صراع الثيران إلا التوحش الممقوت، وما كان التلذذ بإهراق الدم ضروريا في تخريج الأبطال، حكم بوكل المؤرخ الإنجليزي على الإسبانيين حكما شديدا، قال: «لم تبرح إسبانيا في سباتها، تنام هادئة لا هم لها، ولا ألم يساورها، غير متأثرة بالعوامل الخارجية، ولا بما يحدث في العالم من مظاهر الرقي، فهي تنزل هناك في طرف القارة الأوربية كتلة عظيمة لا حركة فيها، حتى صح أن تصور بأنها آخر ممثل لشعور القرون الوسطى وأفكارها، ومن مؤسف المظاهر فيها، أنها راضية عن حالتها، فهي أحط أمة في أوروبا، وتعتقد نفسها أرقى أمة، تفاخر بكل ما كان عليها أن تخجل منه، كثيرة الاعتداد بعتيق آرائها، واستقامة دينها، وصحة يقينها، معجبة بأمور شتى بسذاجتها التي تشبه سذاجة الأطفال، وبكراهتها وتحسينها معتقداتها وعاداتها، تعتز ببغضها للملاحدة، وبانتباهها الدائم الذي به قضت على كل المساعي التي بذلها من أرادوا النزول فيها.»
ومع كل هذا وذاك، يريدنا الأديب الروسي أن نسكت عمن يسيء؛ لأن هناك من يحسن، فسبحان من قسم العقول!
صفحة غير معروفة