الإسلام والحضارة العربية

محمد كرد علي ت. 1372 هجري
179

الإسلام والحضارة العربية

تصانيف

21

كامنها، وأخذ تيمور من دمشق كل ماهر في فن من الفنون، وجملة من العلماء، وربما أخذ أناسا من الأعيان والسادة والنبلاء، وكذلك كل أمير من أمرائه أخذ الفقهاء والعلماء وحفاظ القرآن وأهل الحرف والصناعات والعبيد والنساء والصبيان والبنات بما لا يسعه الضبط، هذا ما عمله في عاصمة واحدة وكذلك شأنه في معظم عواصم الإسلام.

على أن تخريب تيمورلنك لا يقاس إلى تدمير جنكيز وهولاكو؛ لأنه كان مسلما خرب قسما وأبقى آخر، ونقل - شأن كثير من الفاتحين - كنوز البلاد التي وطئها إلى أرض أخرى، ومع أنه استحل إهراق الدماء

22

على غير طائل فقد كان محبا للمعارف والعلماء، وجعل ما جمعه من آثار المدن المخربة في عاصمته سمرقند، زينها بها وعمرها، وأنشأ عدة مدارس وخزائن كتب وغير ذلك من أساليب نشر العلم.

وبينا كانت بلاد الإسلام بعد الغوائل التي انتابتها بالصليبيين الآتين من الغرب، والمغول الواغلين من الشرق، تكفكف العبرات التي سفحتها في القرن الخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع، قام من فروق في القرن العاشر سلطان تركي، يعد من أعظم السلاطين العثمانيين، ففتح قسما من بلاد فارس واستولى على الشام ومصر وسائر بلاد الجزيرة على أيسر سبب، ولم يقصد مباشرة إلى تخريب ما احتمل من المدن العامرة، بل أراد تعريتها من ذخائر العلم والصناعات، فعمل على انتزاع بقايا المدنية العربية من القسم العامر من بلاد العرب في آسيا وإفريقية، محاولا أن يعيش بالتراث العظيم الذي صار إليه من هذه الحضارة، ساكتا عن أصلها وسندها وعن أبي عذرتها؛

23

فبدأ ينقل معظم أدوات المدنية إلى القسطنطينية ليعمرها على الصورة الإسلامية في الجملة، ويخرجها من الرومية المتأصلة فيها، لتكون محط الأنظار بين الأقطار، ويجعل مدنية الترك الإسلامية نعمت الخالفة، لمدنية اليونان الوثنية النصرانية السالفة، فحمل هذا الفاتح من مصر إلى فروق كتب العلم ورجاله، وآلات الصناعة وصناعها، وأجمل الأعلاق وأثمن الجواهر، فسلب مصر مدنيتها، وكانت الأيام سالمتها قليلا فأصبحت عاصمة مهمة على عهد المماليك البرجية والبحرية، وقويت صلاتها التجارية بالغرب، وأنشأوا لهم مدنية لا بأس بها، وراجت في أيامهم التجارة، وخرج السلطان سليم من مصر

24

ومعه ألف حمل من الذهب والفضة، دع التحف والسلاح وأعمدة الرخام والصيني والنحاس، وأخذ من كل شيء أحسنه، وبطل من مصر نحو خمسين صنعة، وعمرت خزائن الآستانة وقصورها من كتب بلاد العرب التي نجت في القرنين السالفين من هولاكو وتيمور، وحبس الأتراك كتب العرب في قصورهم وجوامعهم ومدارسهم، على قلة الراغبين فيها من بني قومهم، وبذلك محيت من الأذهان أول المظاهر العربية في أرض العرب، وغض الأتراك الطرف عن معاهد العلم ومصانع البلاد فخربت خرابا مبكيا، ولم تعد لها قائمة، كأن هذا الجنس التتري حلمة طفيلية لا يعيش إلا بامتصاص دم غيره، وكأن السلطان سليما بعثته الأقدار للقضاء الأخير على الحضارة العربية في فارس والشام ومصر، وهي من الأقطار التي كانت على غابر الدهر موطن الحضارة العربية وكهفها الأمين.

صفحة غير معروفة