13
فشاكسه بعض أهلها، فهجا أهل الجزيرة بأسرهم، بل السوريين بأجمعهم، بل المسلمين عامة، وقال: إن غلط الفكر هو مظهر خلق السوريين، وإن الأرواديين قاوموه للبغض المتأصل في قلب كل مسلم لما يقال له علم، وقال في مناسبة أخرى: إن الذي يميز العالم الإسلامي إنما هو اعتقاد المسلمين أن البحث لا طائل تحته، وأنه قد يؤدي إلى الكفر، وحكم هذا المؤلف على جماع السوريين، بما رأى من انحطاط صيادين معدمين في جزيرة صغيرة، وعلى كل مسلم بأنه عدو العلم والبحث في فطرته، لا يصح على إطلاقه؛ لأنه بعيد عن المنطق، ولا يتلاءم بحال مع حكمة صاحبه وعلمه الواسع، ونظن رنان وهو يكتب قبل زهاء سبعين سنة، لو زار بعض البلاد العربية اليوم لغير رأيه في الحكم على المسلمين، ولرأى كثيرا من عامتهم قد تحرروا مما سماه تعصبا أعمى، وألفوا ممارسة الحقائق، وأقبلوا على العلم على اختلاف ضروبه وكان بعضهم بالأمس ينكرونه ويعقونه.
ومثل ذلك وقع أيضا لعالم أثري مشهور اسمه كلرمون جانو، حيث قال: «إن المدنية العربية ليست سوى كلمة خداعة، لا وجود لها أكثر من فظائع الفتح العربي، وإنها آخر أنوار المدنية اليونانية والرومانية، طفئت بأيد خرقاء ولكنها محترمة وهي الإسلام.» كلام غث في الحقيقة ينم عن جهل بحقائق التاريخ، وإن كان صاحبه الصدر المقدم في علم الآثار، والغالب أنه شق عليه أن لا يرى العرب يرمون ما عور من مصانع اليونان والرومان، فسلبهم حقهم كله من اشتراكهم في خدمة المدنية، وجعلهم في مرتبة الفانداليين في التخريب، مدفوعا إلى هذا القول على ما يظهر بعاطفته لا بعقله، وفاته أن معظم آثار من أحبهم من اليونان والرومان خربت بعوامل الزمن الأرضية والسماوية، وما كان الإسلام سبب تداعيها على ما زعم بعض النافخين في بوق التعصب الديني، ورددوا ما طالما أجملوه ثم فصلوه، من أن الإسلام كان السبب في انقراض
14
الإرث الثمين الذي خلفته بابل وأشور وآسيا الصغرى وسورية وفينيقية فيما يختص بفن البناء والنحت وما إليه، ولو كان جانو حيا اليوم لما أحلناه إلا على ما كتبه ابن وطنه سيديليو
15
قال: وما زال الفرنج إلى الآن ينسبون إلى العرب جميع التخريب الذي يرون اليوم آثاره في الأقطار التي آغاروا عليها، وقد هولت الفرنج في شأنهم، مع أنهم كانوا في جميع الوقائع ذوي لطف عند الانتصار، وسبب ذلك ما رسخ في عقول الفرنج من الخوف والنفرة من العرب، وكانت وجوههم كالحة من حر الشمس وأعينهم مخيفة، هذا مع شدة عدو خيلهم، وغرابة ملابسهم، وتجريدهم سيوفهم، وتكلمهم بلغة لا يعرفها أهل تلك البلاد، لنشر دين بين هؤلاء النصارى المملوءة قلوبهم بتعاليم أساقفتهم، وكانوا لا يتفوهون إلا بالألفاظ الدالة على العداوة والبغضاء لهؤلاء العرب المنكرين ألوهية عيسى ابن مريم. ا.ه.
ومن أين لأثري أن يتفهم تاريخ العرب، وتاريخ الإسلام، كما قال لبون: «لم يوفق كثير من عظماء المؤلفين إلى فهمه، وما زالوا ينكرون فيه إبداع المدنية التي ولدها الدين.» ولو كتب لهذا الأثري أن يحسن التاريخ، لاقترحنا عليه أن يدلنا على الفظائع التي ارتكبها العرب في فتوحهم، ومعظم ما يبالغ في نسبته إليهم مما تبيحه القوانين الحربية، والرومان وهم مثال الدولة المدنية بزعمه، أتوا في بضع سنين من أنواع الجور واستعباد الخلق، ما لم يأت مثله العرب في القرون الأربعة الأولى، على اتساع رقعة ممالكهم.
وقد أجمع مؤرخو الغرب على أن فتح العرب في الأندلس كان أرحم بكثير من فتح الغوط «الويزغوت»، على أن تخريبات الحروب الدينية في الغرب في سبيل نشر النصرانية لتحل محل الوثنية، ثم ما نشب هناك من الفتن والغوائل قرونا طويلة دفاعا عن حمى الدين، كل ذلك كانت فظائعه أعظم من كل ما ارتكبته العرب من الفجائع المزعومة، وماذا نعمل وهذا الأثري كأمثاله، مأخوذ بحب الأحجار ورصفها، لا يثبت على ما يظن لأمة مزية إلا إذا جمعت منها جبالا وتلالا بأية طرق كانت، وما دامت الغاية تبرر الواسطة عنده، فلا يهمه إذا هلك عشرات الألوف من الخلق إن كان من وراء ذلك إنشاء معبد أو قلعة أو مسلة أو قوس أو طريق أو مسرح أو ساحة أو حمام.
السبب في قلة آثار العرب
صفحة غير معروفة