لا يعرف على التحقيق عدد القبائل النازحة من جزيرة العرب إلى البلاد المفتتحة في آسيا وإفريقية وأوروبا، وكان عدد المسلمين في غزوة تبوك، آخر غزوات صاحب الرسالة، مائة ألف وعشرة آلاف من مضر وقحطان ما بين فارس وراجل، إلى من أسلم منهم بعد ذلك إلى الوفاة، ثم كثر المسلمون وتفرقوا في الأقطار، وليست كثرتهم مما يقضي أن يكونوا السواد الأعظم في البلاد التي نزلوها، بل كانوا في كل صقع حفنة صغيرة أشبه بفصوص الفسيفساء في الرقعة العظيمة؛ ذلك لأن القبائل العربية التي هاجرت إلى البلاد المغلوبة لا يزيد عددها عن نصف مليون نسمة في الخمسين السنة الأولى، فقد قدر بعضهم من نزلوا الشام بمائتين وخمسين ألفا، والشام أقرب الأقطار إلى الاختلاط بجزيرة العرب، ومع هذا كان عدد المسلمين في الشام إلى قلة حتى أواخر القرن الأول من الهجرة.
ومما ساعد على انتشار العربية كون الصلاة بها فرضا على كل أعجمي انتحل الإسلام، فالأعجمي يسلم ويتعرب، وإذا لم يسلم تضطره الحال إلى تعلم لغة الدولة القائمة، فيقرب من العواطف العربية، ثم إن هذا اللسان على سعته وسلاسته لم يقف ولم يجمد، فنقل ألفاظا من الفارسية والرومية والسريانية والعبرانية والحبشية والقبطية والهندية، وترك ألفاظا عربية كانت مألوفة له في عصر الجاهلية، واصطلح على كلمات عربية كانت تؤدي معاني أخرى قبل الإسلام، وسعى العرب منذ كانت البلاد في طاعتهم، أن يجعلوا العربية لغة علم كما هي لغة دين وأدب وسياسة، ولم يحارب العرب لغات البلاد الأصلية على رسوخها فيها، بل ساروا في نشر لغتهم بتعقل، وراعى دعاتهم سنن الطبيعة والنشوء، وعملت قاعدة الانتخاب الطبيعي عملها في اللغة كما عملت في العناصر، فبقي ما هو مفيد للناس في مصالحهم على اختلاف نحلهم ومللهم.
كمال العربية وطرق بثها
وقد عجب رنان
5
من كمال اللغة العربية وسعة انتشارها، فقال: من أغرب ما وقع في تاريخ البشر وصعب حل سره، انتشار اللغة العربية؛ فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ بدء، فبدت فجأة على غاية الكمال، سلسة أية سلاسة، غنية أي غنى، كاملة بحيث لم يدخل عليها منذ ذلك العهد إلى يومنا هذا أدنى تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأول أمرها تامة مستحكمة، ولا أدري هل وقع مثل ذلك للغة من لغات الأرض، قبل أن تدخل في أطوار أو أدوار مختلفة؟ قال: ما عهدت قط فتوح أعظم من الفتوح العربية، ولا أشد سرعة منها؛ فإن العربية ولا جدال، قد عمت أجزاء كبرى من العالم، ولم ينازعها الشرف في كونها لغة عامة، أو لسان فكر ديني أو سياسي، أسمى من اختلاف العناصر إلا لغتان: اللاتينية واليونانية، وأين مجال هاتين اللغتين في السعة، من الأقطار التي عم انتشار اللغة العربية فيها؟ ا.ه.
ظهرت العربية كاملة بالقرآن، وكانت سرعة انتشارها على نسبة سرعة فتوح أهلها، وهل أشد شكيمة من أمة اجتمع لها الغرام بالدين والغرام بالدنيا، يخافها ويحترمها عدوها وصديقها في القاصية والدانية، وما عهد في أدوار اللغة العربية، أيام قوة الدولة العربية وضعفها، بل أيام الأعاجم الذين استولوا على البلاد العربية، ما خلا دولة الترك العثمانيين، أن صدرت عنهم عهود وعقود بغير العربية، تترا كانوا أو فرسا أو شركسا أو كردا أو بربرا، والغالب أنهم كانوا يضطرون الدول المجاورة لهم إلى أن يتخذوا لهم منشئين حاذقين بالعربية؛ ليجيبوا الدولة الإسلامية على المكاتبات الرسمية بلغة العرب، هكذا يستدل من تواريخ الأندلس وتواريخ القرون الوسطى وتواريخ الشام ومصر وبغداد والجزيرة وفارس والسند وسائر بلاد المشرق، ولم تشبه العربية في هذا الشأن إلا اللغة اللاتينية في الغرب قديما، واللغة الفرنسية إلى عهد قريب، ثم اللغة الإنكليزية في الأيام الأخيرة، فقد أصبحت هذه الألسن الثلاث كالعربية لغات السياسة والتجارة، بل لغات دولية عامة في المعاملات، وكتب الشرف للعربية أن كانت لغة الدول ذوات العلاقة بالشرق الإسلامي قرابة ألف سنة. «وأصبحت
6
العربية في النصف الثاني من القرن الثامن للميلاد لغة العلم عند الخواص في العالم المتمدن، وصارت حاملة علم التقدم الصحيح، وحافظت على تفوقها وتصدرها في المرتبة الأولى بين جميع الألسن الأخرى إلى آخر القرن الحادي عشر على أقل تعديل، وبعد ذلك أخذ التمدن الإسلامي واللغة العربية بفقدان منزلتهما تدريجيا ، وقد نقلت في القرن الثاني عشر والقرن الذي بعده أكثر التآليف إلى اللغة اللاتينية واللغة العبرانية، وكان كل من يريد أن يطلع في القرن الحادي عشر على آراء عصره مضطرا أن يتعلم أولا اللغة العربية، وزال هذا الاضطرار قبل آخر القرن الثالث عشر؛ فأصبحت اللغة اللاتينية لازمة في الغرب أكثر من اللغة العربية»؛ ولذلك اتهم المجددون في النهضة الأوربية أمثال روجر باكون بالإسلام؛ لأنهم كانوا يعرفون العربية، وكيف لا تكون الأفضلية للعرب في تلك العصور، وإرادة دولتهم هي التي تملي على الأمم، ولا تملي عليهم دولة، وما اتجهت قط هممهم إلى قطر إلا فتحوه وأخضعوه ومدنوه. يقول ابن حزم في كتاب الإحكام: إن اللغة يسقط أكثرها وتبطل بسقوط دولة أهلها، ودخول غيرهم عليهم في أماكنهم، أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم، فإنما يفيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها، وأما من تلفت دولتهم، وغلب عليهم عدوهم، واستقلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم، فمضمون منهم موت الخاطر، وربما كان ذلك لشتات لغتهم، ونسيان أنسابهم وأخبارهم، وبيور علومهم، هذا موجود بالمشاهدة ومعلوم بالعقل ضرورة. ا.ه.
ثم إن المغلوب قد يعتقد في غالبه الكمال فيقلده في شعاره وزيه ولغته وسائر مناحيه، فيرتضخ
صفحة غير معروفة