الإسلام والمسلمون في القرن التاسع عشر
(1) الإسلام
انتهى الإسلام في أوائل القرن التاسع عشر للميلاد إلى نهاية جزره من القوة النفسية والقوة المادية؛ لأنه تلقى عن القرون الأربعة السابقة أثقالا من المتاعب والأدواء لم تمتحن أمة من قبله بمثلها؛ كان بعضها كافيا للقضاء على دولة الرومان الشرقية ودولتهم الغربية، وبعضها كافيا للقضاء على دول الفراعنة والأكاسرة في الزمن القديم، وإن في هذا الميدان من ميادين المقارنة التاريخية لفارقا يبدو لنا في كثير من الصور بين عظمة الدين وعظمة السياسة، فإن دول السياسة تذهب ولا تعود ولا يوجد بعدها من يحاول إعادتها، ولكن دولة الدين - أو على الأصح قوة الدين - تبقى من وراء الأمم والحكومات كأنها القوام الذي تتعاقب عليه بنية في أثر بنية، وهو باق يتجدد ولا يستسلم للفناء.
ولا نعرف من المؤرخين من يستغرب مصاب الإسلام بعد ما تلقاه من الضربات منذ القرن العاشر إلى القرن التاسع عشر للميلاد، وإنما الغريب عندهم هو تلك القوة المنيعة التي صابر بها الكوارث والشدائد زهاء تسعة قرون، ولم يزل بعدها «وحدة إنسانية» هائلة تتخذ مكانها بين هيئات الأمم، ولا تزال على أمل وثيق في المزيد.
ونستطيع أن نتخيل تلك القوة المنيعة بنظرة سريعة نعرض فيها طائفة من الكوارث والشدائد التي صابرتها وصبرت عليها، وهي محيطة بها من خارجها، وناجمة فيها من داخلها وبين ظهرانيها.
فقد مضت القرون الأربعة بين القرن الحادي عشر والقرن الخامس عشر في منازلة الجيوش الصليبية، ولم تكد هذه الحروب تنتهي حتى خلفتها حروب «المسألة الشرقية» وهي التي وقفت فيها الدولة العثمانية - وكانت يومئذ دولة الخلافة - تناهض غارة بعد غارة من غارات الدول الأوروبية التي تألبت عليها، وأطلقت عليها اسم «الرجل المريض»؛ لأنها كانت تتنازع ميراثه وهو بقيد الحياة.
ولم تكد حروب المسألة الشرقية تنتهي بتنافس «الورثة» على بقية الميراث حتى أعقبتها حملات الشركات وأصحاب الديون، ومعها حملات الاستعمار والتبشير.
وقبل الحروب الصليبية وبعدها كان العالم الإسلامي عرضة لأهول الغارات من قبل آسيا الوسطى التي كانت ترسل الفوج بعد الفوج من عشائر التتر والمغول بقيادة جنكيز خان وهولاكو وغازان وتيمورلنك وأتباعهم من القادة والأمراء، وهم لا يفهمون معنى الغلبة إلا أنها قدرة على الفتك والتدمير، وأن أعظم المنتصرين من يقاس انتصاره بعدد من قتل من المحاربين وغير المحاربين، وعدد ما ضرب من المدن والقرى في الطريق. ومنهم من كان يظهر الإسلام ويغير على ممالكه؛ لأنها على زعمه تساس على خلاف شريعة الإسلام!
وفي خلال ذلك جميعه كانت الدولة الإسلامية تتسع وتمتد حتى ينقطع ما بينها من الصلة، ويتعذر على القائمين بها أن يجمعوها إلى حكومة واحدة، وكان اتساع الآفاق يصحبه اختلاف المواقع واختلاف السكان واختلاف المصالح والأهواء، فلا تلبث أن تتمزق وتتفرق، ثم تتعادى وتتعاون على البغي والعدوان، ضربات لم تصمد لمثلها دولة من الدول الجامعة أو الدول التي سميت بالإمبراطوريات في الزمن القديم.
وقد رأينا كثيرا من المؤرخين يوازنون بين أخطار هذه الضربات، ويجعلون الحروب الصليبية في مقدمتها، أو يجعلونها فاتحة الضربات يتلوها ما تعاقب بعدها من الأخطار والأخطاء.
صفحة غير معروفة