ثمن الكتابة
إهداء
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
ثمن الكتابة
إهداء
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
صفحة غير معروفة
إيزيس
إيزيس
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
صفحة غير معروفة
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وإنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، أمال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
صفحة غير معروفة
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
إهداء
لا أوصي ابنتي التي ستلي العرش من بعدي أن تكون إلهة لشعبها تستمد سلطتها من قداسة الألوهية، بل أوصيها أن تكون حاكمة رحيمة عادلة.
من نوت إلهة السماء
لابنتها إيزيس
4988ق.م (مصر القديمة)
صفحة غير معروفة
مقدمة
كتب كثيرون من المؤلفين عن إيزيس الإلهة المصرية القديمة، لكن أحدا منهم لم يعطها حقها كشخصية تاريخية لها أبعاد متعددة، ولها فلسفة ومبادئ وديانة انتشرت في مصر وانتقلت إلى أوروبا وظلت باقية حتى القرن السادس الميلادي رغم حروب الإبادة التي وجهت ضدها على مر القرون.
لكن معظم المؤلفين تجاهلوا هذه الحقيقة أو جهلوها، ولم يذكروا شيئا عن إيزيس سوى أنها زوجة أوزوريس، وأن الصورة الوحيدة المميزة لها هي صورة الزوجة الوفية، كأنما لم يكن لإيزيس قيمة في حد ذاتها مستقلة عن كونها زوجة أوزوريس أو أم حوريس.
وتعتبر مسرحية إيزيس التي كتبها «توفيق الحكيم»
1
خير مثل على ذلك. وفي بيانه الأخير في نهاية المسرحية المنشورة يؤكد توفيق الحكيم على أن الصورة المميزة لإيزيس هي الوفاء الزوجي، وأن بين شهرزاد وإيزيس وشائج الشبه في علاقة كل منهما بزوجها؛ «كلتاهما قد فعلت شيئا مجيدا لزوجها.» وكذلك أيضا «بنيلوب» اليونانية. لكن الوفاء الزوجي عند بنيلوب كان في رأيه وفاء سلبيا؛ لأنها اكتفت بالجلوس في بيتها تنتظر عودة زوجها وتنسج ثوبها المشهور، لكن وفاء إيزيس كان (في رأيه) إيجابيا.
وبالرغم من أن توفيق الحكيم جعل عنوان مسرحيته «إيزيس»، إلا أن الصراع الرئيسي في المسرحية لم يكن له علاقة بإيزيس سوى أن «سيت» (سماه توفيق الحكيم «طوفيون» كالأسطورة اليونانية) قتل زوجها أوزوريس.
لو لم تكن إيزيس متزوجة من أوزوريس لما كان لها دور في الحياة الفكرية والسياسية، مع أن التاريخ يؤكد دور إيزيس الفكري والفلسفي أكثر من دور زوجها أوزوريس، بل هي التي علمته الفلسفة والطب والزراعة والكتابة والفنون.
وتدور المسرحية حول مفهوم توفيق الحكيم لمعنى المثالية والواقعية، وكيف يمكن للرجل المفكر أن يعادل بينهما. يدور الصراع الرئيسي في المسرحية بين الرجال، وتظل إيزيس صامتة حين يحتدم الصراع بين «نوت» و«مسطاط» كما فعل «مسطاط» ولا يفصل بين الغاية والوسيلة، ولم يلتزم بالغاية وحدها كما فعل نوت ولا تهمه الوسيلة؟!
ولم يكن لإيزيس رأي أو فكر في هذه القضية الأساسية التي بنى عليها توفيق الحكيم مسرحيته، إنها ليست كاتبة ولا مفكرة ولا فيلسوفة مثل نوت ومسطاط، ولكنها مجرد زوجة أوزوريس أو أرملته، ودورها الأساسي هو الوفاء لزوجها، ومن أجل زوجها هي مستعدة لعمل أي شيء حتى الرشوة وانتهاك المبادئ المثالية.
صفحة غير معروفة
إنها في نظر توفيق الحكيم مجرد امرأة فقدت زوجها وليس لها هم في الحياة إلا استرداده. ولم تكن الإلهة إيزيس في تاريخنا المصري القديم بهذه السطحية، إلا أن رؤية توفيق الحكيم المحدودة للمرأة حجبت عنه شخصية إيزيس بأبعادها المتعددة، ومنها أنها كانت إلهة الحكمة والمعرفة والحركة السريعة، اكتشفت الزراعة وعلمت المصريين الزراعة والكتابة وصناعة الخبز من الحنطة والشعير.
ولم تكن إيزيس تحب العدل فحسب، ولكنها كانت تسعى لتحقيق العدل، وكانت تحب الإنسان الطيب؛ ولذلك أحبت أوزوريس ولم تحب «سيت»، مع أن «سيت» كان أخاها أيضا مثل أوزوريس ابن أمها نوت وأبيها جيب، لكنها لم تحبه لأنه كان ظالما. إن الفيصل في علاقتها بالرجل هو مدى حبه للعدل، الرجل الفاضل عندها كان هو الرجل العادل، والعدل هو الشرف، والشرف هو الجمال.
وقد استطاعت «إيزيس» أن تحارب «سيت» حتى هزمته، وكان يمكن لها أن تحكم عليه بالموت وتقتله كما قتل أوزوريس، لكنها ارتفعت فوق الانتقام وعفت عنه رغم غضب ابنها حوريس؛ العفو عند المقدرة كان من مبادئها أيضا.
لكن أين هذه الإيزيس الإلهة الحكيمة ذات العلم والفلسفة والمبادئ من تلك الإيزيس الأخرى التي لم تكن إلا ظلا لزوجها في حياته ومماته، ومن بعده أصبحت ظلا لابنها حوريس؟
إن هذه المسرحية التي أقدمها الآن هي إيزيس المصرية كما فهمتها من التاريخ، ومن حق كل مؤلفة أو مؤلف أن يفسر التاريخ بعقله ويعيد قراءته من جديد، إن القصص والأساطير التاريخية ليست ملكا لأحد وليس لها تفسير واحد، وهي أحد المنابع الخصبة أمام كل عقل يفكر. التاريخ ملك لكل من يمتلك الخيال والعقل والإخلاص لمعرفة الحقيقة، وتملك الكاتبة أو الكاتب حرية تفسير الأساطير في إطار الحقائق المعروفة.
ومن حقائق التاريخ المصري القديم أن الآلهة والحكام والملوك لم يكونوا ذكورا فحسب، وأن المرأة المصرية شاركت الرجل مناصب الألوهية العليا، بل إن أهم هذه المناصب شغلتها المرأة. كانت «نوت» أم إيزيس إلهة السماء، وكانت «معات» هي إلهة العدل، وإيزيس إلهة الحكمة والعقل والإرادة، بل إن «حواء» زوجة «آدم» كانت إلهة للمعرفة، ألم تكن هي أول من تحدى الإله ومدت يدها إلى شجرة المعرفة؟
وهل هناك في حياة الدول والشعوب أهم من مناصب العدل والمعرفة والحكمة وعرش السماء؟ وكلها مناصب فكرية وسياسية تتعلق بالقدرة العقلية والقدرة السياسية والاجتماعية، بخلاف منصب إلهة الخصوبة والولادة الذي فرض على المرأة فيما بعد واقتصر دورها على القدرة البيولوجية والإنجاب، وارتبطت المرأة بالجسد والجنس، ثم انحدر الجسد بانحدار المرأة وأصبح يرمز إلى الدنس والإثم بعد أن كان رمز الخصوبة والخير.
كيف تحولت إيزيس ونوت ومعات وغيرهن من إلهات السماء والحكمة والعدل والعقل إلى «حواء» رمز الخطيئة وحليفة الشيطان؟! لقد ارتبط هذا التحول في التاريخ بنشوء العبودية واحتكار الرجل لمنصب الألوهية وحده دون المرأة، واحتكاره السلطة في السماء وفوق الأرض، في الدولة وفي العائلة، وطرده للمرأة من جميع مجالات الفكر والفلسفة والدين واعتبارها جسدا مدنسا.
أصبحت هذه هي الصورة للمرأة في الدين اليهودي. وهو أول دين سماوي يعكس الفلسفة العبودية. وأصبحت المرأة جسدا بغير رأس، ورأسها هو زوجها. أصبحت «حواء» هي التي عصت الإله وأكلت من شجرة المعرفة وتسببت في سقوط آدم من الجنة، فكأنما الجنة هي الجهل، ومن يأكل من شجرة المعرفة يسقط من السماء إلى الأرض. أو كأنما الإله كان يفرض على الإنسان الجهل، وجاءت حواء وأعلنت العصيان والثورة على الإله وحررت البشرية من ظلام الجهل إلى نور المعرفة.
ولا تزال قصة «حواء» في التاريخ مثل قصة «إيزيس» ومثل قصة «مريم العذراء» في حاجة إلى رؤية خلاقة جديدة تعيد إلى هذه الشخصيات التاريخية النسائية قدراتها العظيمة التي أهدرها مؤرخو العبودية ثم الإقطاع ثم الرأسمالية، وكلها أنظمة أبوية طبقية قائمة على الفلسفة العبودية التي تفرق بين الإله والإنسان والسيد والعبد والرجل والمرأة.
صفحة غير معروفة
وفي مثل هذه الفلسفة العنصرية العبودية أصبح للمرأة صورتان لا ثالث لهما، الجسد الآثم بلا عقل مثل حواء الشيطانية، أو الروح الطاهرة بلا جنس مثل مريم العذراء الملائكية.
لقد أصبحت «مريم العذراء» هي المرأة المثلى في عصرنا الحديث؛ فهي امرأة تحمل وتلد دون أن يلمسها رجل ... ويتخذها كثير من الناس رمزا للطهارة والعفة، لكنها في الحقيقة ترمز إلى القوة الخارقة للطبيعة؛ فهي قادرة على الإنجاب دون حاجة إلى رجل، وكأنما المرأة قادرة على إخصاب نفسها بنفسها، وهي قدرة خلاقة مثل قدرة الآلهة تكسر بها القيود المفروضة حولها.
وربما بسبب هذه القدرة الخلاقة لا تزال مريم العذراء حتى يومنا هذا تتراءى لكثير من الناس، وما زال طيفها حتى شهر أبريل 1986 يطل على منارات كنيسة دميانة في شبرا بالقاهرة، وآلاف الناس يتجمعون ينشدون لديها القدرة الخارقة على إنقاذهم من مشاكلهم وأمراضهم المستعصية.
وحسب منطق الدين المسيحي، فإن المسيح هو الذي كان يملك القدرة الإلهية على شفاء الأمراض المستعصية، وكان من الطبيعي أن يتراءى طيف «المسيح» للناس فوق منارات الكنائس، لكن هذا لا يحدث أبدا، ولا يتراءى للناس في أعماقهم. يؤمنون شعوريا أو لا شعوريا بأن المرأة تملك القدرة الإلهية أكثر من الرجل؟!
ولا تزال «مريم العذراء» مثل «إيزيس» مثل «حواء» شخصية تبحث عن المؤلف أو المؤلفة التي يمكن أن تكشف عن جوانب شخصيتها المتعددة التي طمسها مؤرخو العبودية وكتابها .
وقد قرأت مسرحية توفيق الحكيم «إيزيس» المنشورة (مكتبة الآداب 1976)، وشاهدت المسرحية من إخراج كرم مطاوع (عام 1986)، وفي كلتا الحالتين (القراءة والمشاهدة) لم أعثر على إيزيس التي قرأت عنها في التاريخ.
ومن المفروض أن تكون رؤية الفنان للشخصية التاريخية أكثر عمقا وأوسع أفقا من رؤية المؤرخ، لكن فلسفة توفيق الحكيم الأبوية والتي لا مكان فيها للمرأة إلا كظل لزوجها لم تساعده على رؤية الجوانب المتعددة في شخصية إيزيس.
ويشبه توفيق الحكيم في هذه الحالة الكاتب المسرحي السويسري فريدريك دورنيمات، الذي حاول أيضا أن يعيد قراءة الأساطير القديمة بعقل متحرر من الفلسفة العبودية الطبقية، ونجح في ذلك إلى حد كبير، لكنه عجز كتوفيق الحكيم عن التحرر من الفلسفة الأبوية التي لا تزال تؤمن بسمو عقل الرجل وأخلاقه ومبادئه.
وأذكر بهذا الصدد مسرحية «زيارة السيدة العجوز»، وهي من أهم أعمال دورنيمات وأكثرها تحررا من الفكر الطبقي، لكن رؤيته للسيدة «كلارا» ظلت محدودة في حدود فهمه لحواء، وعجز عن أن يرى جوانب شخصيتها المتعددة، ونسي خطيئة الرجال في القصة وعلى رأسهم «ألفريد» (آدم البريء)، وتصور أن خطيئة «كلارا» هي أصل البلاء مثل خطيئة «حواء»، مع أن المسرحية في بدايتها تثبت أن الذي بدأ الإثم والاعتداء هو الرجل.
2
صفحة غير معروفة
وبالمثل صور توفيق الحكيم «إيزيس» كأنما هي أسرع للخطأ والخطيئة من الرجال في المسرحية أمثال نوت ومسطاط؛ فهي تلجأ للرشوة والوسائل الفاسدة من أجل ما تريد، وإذا حدث وتذكرت أحد المبادئ أو المثل العليا فهي ليست مبادئها هي، إنما مبادئ زوجها أوزوريس، وهي مجرد ناقلة لمبادئه، وحافظة وحامية لأفكاره، حاملة لابنه هو وليس ابن رجل آخر.
وحينما يتهمها «سيت» بالزنا، وبأن «حوريس» ليس ابن أوزوريس الشرعي، لا تعرف كيف ترد سوى أن تطلب من «سيت» أن يحترم زوجة أخيه. حتى الاحترام لم يجده توفيق الحكيم جديرا بإيزيس إلا لكونها زوجة الأخ، وفرض عليها الوقوف صامتة عاجزة عن الرد سوى أن تؤكد أن حوريس هو ابن أوزوريس الشرعي وأنها امرأة شريفة، مع أن مفهوم الشرف في فلسفة وديانة إيزيس كان مختلفا عن مفهوم الشرف الأبوي الذي يؤمن به توفيق الحكيم.
كان الشرف عند إيزيس هو العدل وتحقيق العدالة، وكان شرف المرأة مثل شرف الرجل، والمقياس هو العدالة والحق والصدق، يسري على الجميع دون تفرقة. لكن مفهوم الشرف تغير بنشوء العبودية واستبداد الآلهة من الرجال، وأصبح للرجل شرف إخصاب ما يشاء من النساء والعبيد، أما المرأة فهي تقتل إذا ما نظرت لرجل آخر غير زوجها، أصبح قانون الشرف مزدوجا، وأصبح من حق الرجل أن يفرض على المرأة الإخلاص الزوجي، أما المرأة فلا يحق لها أن تطالب زوجها بالإخلاص.
لهذا لم يهدد الشرف والأخلاق في مسرحية الحكيم إلا عدم إخلاص إيزيس لزوجها وإنجابها حوريس من رجل آخر، وهي تدافع عن نفسها بالمنطق ذاته، تنفي التهمة وتؤكد شرفها وإخلاصها لزوجها.
ومن هو الذي يتهم إيزيس بعدم الشرف؟ إنه سيت، الذي يجسد عدم الشرف بمعناه الحقيقي في فلسفة إيزيس. «سيت» الرجل القاتل الفاسد الظالم، الذي لا يعرف شيئا عن المبادئ الإنسانية العليا وأولها العدل والرحمة. هذا هو «سيت» الذي يتهم «إيزيس» بفقدان الشرف لأنها أنجبت ابنها حوريس من غير أوزوريس، وينسى تماما أنها إلهة المعرفة والعدل والحق والحكمة، ينسى تماما أنها صاحبة الفلسفة الإنسانية القائمة على المبادئ والمثل العليا وأولها العدل والرحمة.
ومن حقائق التاريخ المصري القديم أن العرش كان يورث عن طريق النساء وليس الرجال؛ ولذلك كان الأخ يتزوج أخته ليحصل على العرش. لكن توفيق الحكيم تجاهل هذه الحقيقة التاريخية تماما، وتجاهل أيضا أن إيزيس كانت تشارك أوزوريس الحكم كما ورد في التاريخ.
وفي مصر القديمة كان الطب وعلاج الأمراض مجالا برزت فيه النساء. وكبيرة الأطباء في مصر القديمة كانت امرأة، وإيزيس هي التي علمت أوزوريس الطب وعلاج سم العقرب ضمن ما علمته من علوم وفنون وفلسفة، لكن مسرحية توفيق الحكيم تقلب هذه الحقائق التاريخية رأسا على عقب، وتجعل من أوزوريس معلما لإيزيس، يلقنها كل شيء حتى علاج ابنها حوريس من سم العقرب.
ولم تكن إيزيس تعلم أوزوريس فحسب، ولكنها كانت تعيد خلقه من جديد بعد أن يقتله «سيت»، وتصنع له رأسا جديدا وعقلا جديدا وعضوا تناسليا جديدا بدل الذي أكله سمك النيل.
وكان هيكل إيزيس يسمى «زونة» ومعناها إدراك الحقيقة، ولم يكن عابد إيزيس الحقيقي هو الذي يرتدي الأثواب المقدسة وتتدلى لحيته فوق ذقنه، ولكنه كان الذي يبحث بغير كلل أو ملل عن الحق والعدل والحكمة والمعنى العميق للأشياء.
كانت إيزيس ترمز إلى العمل والعقل والخلق، كانت تعيد خلق وبناء كل ما يهدمه «سيت»، بما في ذلك أوزوريس نفسه. كان «أوزوريس» الصورة أو الشكل الذي يتجسد به عمل «إيزيس».
صفحة غير معروفة
كانت هي الفاعلة والخالقة، وأوزوريس هو ناتج فعلها، وهو ناتج طيب خير (كلمة أوزوريس تعني التقي أو الطيب)، وكما أنتجت أوزوريس أنتجت أيضا ابنها حوريس، وعلمته المبادئ الإنسانية العليا والفلسفة والحكمة.
ولم يكن وفاء إيزيس لزوجها مجرد الوفاء لرجل كما صوره توفيق الحكيم في مسرحيته، بدليل أن زوجها مات لسنين طويلة ثم أنجبت حوريس.
لم يكن الوفاء الزوجي عند الإلهة إيزيس هو الوفاء لشخص أو رجل معين، وإنما كان الوفاء لمبادئها الإنسانية العليا وأهمها العدل.
وكان غريبا ومخالفا للتاريخ وقوف إيزيس على خشبة المسرح وقوفا صامتا وراء نوت ومسطاط حين كان يحتدم الصراع الفكري حول المبادئ والفلسفة، أو ظهورها بمظهر الأرملة الباكية الضعيفة التي تقبل الرشوة أو الخطيئة، على حين يظل مسطاط قويا صامدا كالإله العظيم.
وتظهر فلسفة توفيق الحكيم القائمة على عدائه للمرأة واضحة في سطور مسرحيته حين يقول الملاح لإيزيس ساخرا إنها تعوق مركبه عن الملاحة، وإن الملاحة لا يعطلها إلا شيئان: «سكوت الهواء، وانطلاق لسان امرأة.»
مع أن إيزيس كانت حسب القصة التاريخية هي «إلهة الملاحة» أيضا، وكان المصريون يلجئون إليها حين تسوء أحوال البحر لتحمي الملاحين من الغرق.
إن إيزيس توفيق الحكيم ليست هي إيزيس المصرية القديمة، ليست هي الإلهة إيزيس التي انتشرت فلسفتها وعبادتها في مصر، واجتازت البحار والقارات شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وظلت قائمة حتى بعد ولادة المسيح بأربعة قرون تقريبا (حتى عام 394 ميلادية) حين جاء الإمبراطور تيودور وحطم تماثيل إيزيس ومعابدها في الإمبراطورية الرومانية. ولا يزال في مدينة «كولونيا» بألمانيا الغربية بقايا تمثال إيزيس المصرية، وعلى قاعدته حفرت هذه الكلمات: «إيزيس التي لا تقهر.»
إن هذه المسرحية ليست إلا محاولة لإعادة بعض الحق وبعض العدل لإلهة الحق والعدل «إيزيس».
د. نوال السعداوي
القاهرة. أبريل 1986
صفحة غير معروفة
الفصل الأول
المشهد الأول (الإله رع إله الشمس جالس فوق عرشه في السماء، وقد استدعى للحضور أمامه «سيت» بعد انتصاره في المعركة.) (سيت واقف أمام الإله «رع» ممتطيا خنجره.)
الإله رع :
ثبت لي من هذه المعركة الأخيرة أنك فارس شجاع قوي، تجمع إلى جانب الشجاعة والقوة الإيمان بي، بالإله «رع» إله الشمس، يملك السماء والشمس وليس له شريك الآن بعد هذه المعركة الأخيرة. أنا متأكد أن قلبك عامر بالإيمان إلى جانب كفاءتك في الحرب وقوتك.
إن النصر لا يتحقق بغير الإيمان والقوة، ونحن الآن في عصر الرجال الأقوياء، عصر الرجولة، عصر الأسياد من الرجال، انتهى عصر النساء وضعاف الرجال.
سيت :
نعم أيها الإله الأعظم «رع».
رع :
انتهى العصر الذي تساوى فيه الضعفاء مع الأقوياء، وأبناء الآلهة مع أبناء الشعب، والرجال مع النساء، كنا نعيش عصر البدائية والظلام، عصر تعدد الآلهة في السماء وتعدد السلطات فوق الأرض. منذ الآن لا يوجد في السماء إلا إله واحد هو الإله «رع» إله الشمس، ولا يوجد فوق الأرض إلا حاكم واحد هو «جيب» إله الأرض.
سيت :
صفحة غير معروفة
نعم أيها الإله الأعظم رع، كسبنا المعركة بقوة الإيمان وقوة السلاح وتضامن الرجال. ودانت لك مملكة السماء، ودانت لأبي «جيب» مملكة الأرض.
رع :
أريد أن تقرعوا الأجراس وتعلنوا في الأبواق والمزامير أنني أنا الإله «رع» قد انتصرت على «نوت» إلهة السماء، وأنها انهزمت شر هزيمة، ولم يعد لها مكان فوق عرش السماء أو عرش الأرض. انتهى عصر سلطة الأم «نوت»، وبدأ عصر الأب المقدس الإله الأعظم «رع».
سيت :
أعلنا ذلك في الأبواق والمزامير.
رع :
وكيف استقبل الناس الخبر؟
سيت :
بالفرح والسعادة والترحيب.
رع :
صفحة غير معروفة
إلا النساء بالطبع.
سيت :
وبعض الرجال من ذوي الشك والإيمان الضعيف.
رع (في غضب) :
عقابهم الموت حرقا أو إلقاؤهم أمام الوحوش لتنهش أجسادهم. فليعلم الجميع أنني أنا الإله «رع» قد أغفر كل الخطايا، إلا خطيئة الشك وعدم الإيمان بي.
هل أعلنتم ذلك؟
سيت :
نعم.
رع :
ومن هم هؤلاء من ذوي الشك؟
صفحة غير معروفة
سيت :
سنتولى أمرهم ولا داعي أن تغضب وتعكر صفوك أيها الإله الأعظم رع.
رع :
إن غضبي شديد جامح لا يحده شيء.
سيت :
هذا أمر معروف وطبيعي من الإله الأعظم.
رع :
لكن من هؤلاء؟ هل تعرف أسماءهم؟ (سيت يظل صامتا.)
رع :
لماذا تسكت؟ أتخفي عني شيئا يا سيت؟
صفحة غير معروفة
سيت :
أبدا أيها الإله الأعظم رع، ولكني سأمنحهم فرصة أخرى للتوبة والعودة إلى الصواب والحق.
رع :
لم أعهدك من قبل شفوقا بهذه الدرجة، هل منهم أحد تخاف عليه من بطشي؟ (سيت صامتا.)
رع :
أخوك أوزوريس وأختك إيزيس؟ لا تظن أنني لا أعرف ماذا يحدث فوق الأرض، صحيح أن عرشي فوق قرص الشمس في السماء، لكني أتابع ما يحدث فوق الأرض، وأعرف أن أختك إيزيس وأخوك أوزوريس من الحفنة المتمردة، وأنا قادر على البطش بهما لولاك.
سيت :
إن ولائي لك أيها الإله الأعظم فوق علاقتي بأختي وأخي وروابط الدم. لقد حاربت في صفك ضد أمي نوت، وليس في روابط الدم ما هو أقوى من الأم، لكني ضحيت بأمي من أجل الإله الأعظم «رع».
رع :
هذا دليل على قوة إيمانك يا ست، وسوف يكون لك أجر عظيم على هذا الإيمان.
صفحة غير معروفة
سيت :
وما هو أجري أيها الإله الأعظم؟
رع :
ماذا تريد؟ اطلب وأنا أحقق طلبك على الفور.
سيت :
أريد أن أرث عرش الأرض بعد أبي «جيب».
رع :
ليكن. ستكون إله الأرض بعد أبيك «جيب». أتريد أن أعلن ذلك من اليوم؟ أم نؤجل ذلك حتى ... (يسكت لحظة) ...
حتى موت أبيك؟ إنه مريض وفي أواخر أيامه، ومن الحكمة أن ننتظر والإنسانية أيضا ... ما رأيك يا سيت؟
سيت :
صفحة غير معروفة
نعم أيها الإله الأعظم، يمكنني الانتظار حتى موت أبي، لكنه انتظار قد يطول، وأنا بطبيعتي ... كرجل حرب ... رجل الحرب عادة قلق لا يحتمل الانتظار الطويل ... لا أريد أن أبدو كمن ينتظر موت أبيه ليحصل على العرش ... وأنا أحب أبي رغم كل شيء، رغم أنه لا يحبني، ويفضل علي أبناءه الآخرين.
رع :
أتعني إيزيس وأوزوريس؟
سيت :
بل نفتيس أيضا يفضلها علي، إنه لا يعلن ذلك، بل العكس هو الصحيح، إنه يعلن أنني أفضل أبنائه، لكني أحس العكس.
رع :
أتعني أنه يكذب عليك؟
سيت :
لا أظن أنه يكذب أيها الإله الأعظم رع، لكنه منذ وفاة أمي نوت وهو يعاني حالة أشبه بالانفصام بين عقله وقلبه؛ فهو يدرك بعقله أنني أفضل أبنائه، وأنني يده اليمنى وساعده القوي، لكن قلبه أو شعوره ليس معي. لا أدري لماذا، مع أنني أطيع أوامره ولا أعصي له أمرا؟ بعكس إيزيس وأوزوريس اللذين لا يكفان عن مناقشته في كل شيء، حتى المقدسات!
رع (غاضبا) :
صفحة غير معروفة
حتى المقدسات؟
سيت :
سمعتهما يقولان له إن كل شيء قابل للنقاش والجدل.
رع (غاضبا) :
ألا يؤمنان بقدسية الإله «رع» وأن شريعتي فوق النقاش والجدل.
سيت :
إنهما يحبان الجدل والفلسفة، وكل شيء عندهما خاضع للعقل والنقاش.
رع (غاضبا) :
أكانا يناقشان شريعة أمك نوت حين كانت إلهة السماء؟
سيت :
صفحة غير معروفة
نعم أيها الإله الأعظم رع، لكن الخطأ ليس خطأهما؛ إنها أمي، هي التي عودتهم على الجدل والمناقشة، وأن لا شيء فوق العقل والعدل، بما في ذلك قدسية الألوهية.
رع :
لقد صعدت أمك نوت إلى منصب إلهة السماء في غفلة من الزمن، فالمرأة ناقصة العقل، ولا يمكن لعقلها أن يدرك قدسية الألوهية، وكان ذلك السبب الرئيسي في هزيمتها وسقوطها من فوق العرش.
سيت :
ولم تكن أمي تؤمن أن إله السماء يحتاج إلى قوة السيف والخنجر مثل إله الأرض.
رع :
كانت تقول إن الحق فوق القوة، والسلام فوق الحرب.
إنها الفلسفة النسائية القائمة على الضعف وعدم القدرة على المبارزة واستخدام السلاح. كانت أمك نوت تبرر ضعفها في القتال بالكلام عن السلام، وقد انهزمت شر هزيمة وانهزمت معها فلسفتها، وانتهى عصر الآلهة الضعيفة. إذا لم يكن الإله رمز القوة والجبروت، فمن يكون؟ إذا لم يكن للإله رهبة كبيرة في نفوس الناس وخوف عظيم، فكيف يخضعون؟ كيف يخشعون؟ كيف يطيعون؟ الطاعة لا تكون بغير الخوف، والخوف لا يكون بغير السلطة القوية والرهبة العظيمة. وأمك «نوت»، أكان أحد يرهبها؟ كانت تمشي بين الناس في الأسواق بغير رهبة وبغير حاشية وبغير جيش، وكأنما هي واحدة من البشر، انتهى هذا العهد، عهد الآلهة البشر، وبدأ عهد الإله اللابشر، الذي لا يمشي بين الناس في الأسواق، والذي لا يراه الناس بعيونهم إلا على شكل النور السماوي الذي يتجلى في قرص الشمس، إله الشمس هذا هو الإله الأعظم رع، هل أعلنتم ذلك على الناس؟
سيت :
نعم نعم، كل ذلك أعلناه في الأبواق أيها الإله الأعظم.
صفحة غير معروفة
رع :
والمزامير؟
سيت :
والمزامير أيضا، وكلفنا الكاتب «توت» بكتابته أيضا ليسجل على الورق.
سيت :
نعم، أوامري وشريعتي لا بد أن تكون مكتوبة، تقتضي الرهبة ألا يقف الإله أمام الناس ويلقي الخطب؛ إن صوتي مقدس لا تسمعه آذان البشر، كما أن الكلمة المكتوبة لها رهبة عند الناس، وقدسية. أريد لكلماتي أن تكون مقدسة فوق الجدل والمناقشة وفوق العقل البشري، هل كتب «توت» كل ذلك؟
سيت :
نعم أيها الإله الأعظم، كل ذلك مكتوب ومسجل داخل غلاف من الورق المصقول.
رع :
هذا هو كتابكم المقدس، وكل عبارة تبدأ باسمي الإله الأعظم رع، وأمام الاسم رسم على شكل قرص الشمس.
صفحة غير معروفة
سيت :
هذا هو بالضبط ما فعلناه.
رع :
وشريعتي لها ثلاثة أركان: أنني أنا الإله رع إله الشمس، قد ملكت السماء كلها، وليس هناك إله غيري يتربع على عرش السماء.
سيت :
هذا مكتوب أيها الإله الأعظم.
رع :
والركن الثاني: من يتشكك في قدسية الإله رع عقابه الموت حرقا، أو أن يلقى أمام الوحوش الضارية لتأكله.
سيت :
وهذا أيضا مسجل.
صفحة غير معروفة