ثم إن المصنف أطلق القول بالوجوب، وهو تابع للمتقدمين من المعتزلة فإنهم أطلقوا، وأما المتأخرين كأبي علي وأبي هاشم وطبقتهم فإنهم فصلوا، فجعلوا الأمر بالواجب واجبا، والأمر بالمندوب مندوبا، قالوا: لأنه لا يزيد حال الأمر على حال المأمور به، فإذا جاز للمأمور أن يترك المندوب جاز للآمر أن يترك الأمر به، فأما المنكر فلا ينقسم؛ لأنه قسم واحد، وهو ما يستحق عليه العقاب فيجب فيه النهي إذا تكاملت الشروط الآتية، وإنما يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند من قال بالوجوب (إذا تكاملت شروطهما)، وشروطهما خمسة:
الأول: أن يعلم الذي يأمر بمعروف وينهى عن منكر أن الذي يأمر به معروف والذي ينهى عنه منكر، وإلا لم يأمن أن يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، ولأن الآمر لزيد مثلا بأن يفعل كذا لوجوبه يتضمن الإخبار بالوجوب إذ لو لم يكن حاكما بوجوبه لما أمر به، وكذلك في النهي فإذا كان الخبر لا يحسن إلا مع العلم فكذلك ما يتضمنه وينبي عنه.
فإن قيل: أليس مما يجب علينا فيه الأمر والنهي المسائل الاجتهادية التي طريقها الظن، بحيث أنا نظن وجوبها أوقبحها ولا نعلم ذلك، ومقتضى ما ذكرتم وشرطتم أن يرتفع باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيها لكونها غير معلومة؟
والجواب: أن الظن إنما هو في مسائلها فمتى دلت عليها الأدلة الظنية بعد توفية الاجتهاد حقه صار الوجوب والقبح فيها معلومين؛ لأن دليل وجوب العمل بما أدى إليه الاجتهاد قطعي، ونظيره ما إذا حصلت قرينة تقتضي الظن بأن الطعام مسموم، وأن في سلوك هذه الطريق لحوق ضرر، فإنه حينئذ يعلم بالعقل علما يقينا وجوب تجنب الطعام.
صفحة ١١٣