بسم الله الرحمن الرحيم [مقدمة المؤلف في بيان موضوع الكتاب] الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد فإنه لما كان الخلاف واقعا في الأحكام الشرعية بين الأمة المحمدية - وقد عرفنا أن ربنا تبارك وتعالى واحد، ونبينا صلى الله عليه وآله واحد، وديننا زاده الله شرفا واحدا - وجب على العاقل اللبيب أن ينظر في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: أيسوغ ذلك الاختلاف، فنعذر على التفرق (1) في الدين باتباع المختلفين؟ أم لا يسوغ، فلا نعذر في ذلك؟ وما المعمول عليه بعدئذ؟ لأن في الاخلال بالنظر في ذلك مخاطرة بلا ملجئ، والعقل يقضي ضرورة بقبح المخاطرة بغير ملجئ، وكذلك الشرع، قال تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) الآية [الأسراء: 36].
وقد جمعت في ذلك ما يرشد الطالبين إن شاء الله تعالى، ولم أقصر في بيانه، مريدا للإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وذلك يتضمن ستة فصول:
صفحة ٣٥
الفصل الأول في الإرشاد إلى حكم الخلاف وذلك أنا نظرنا في كتاب الله فإذا هو ناطق بتحريم الخلاف في الدين على الإطلاق، قال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) [آل عمران: 103].
وقال تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) [آل عمران: 105].
وقال تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ) الآية [الأنعام: 159].
وقال تعالى: (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) [الشورى: 13]، ولم يفصل في أيها.
ثم نظرنا في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا هي جارية على هذا النسق.
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (أتاني جبريل عليه السلام فقال:
إن أمتك مختلفة بعدك. فقلت: فأين المخرج يا جبريل؟ فقال:
صفحة ٣٦
كتاب الله به يقصم كل جبار عنيد، ومن اعتصم به نجا، ومن تركه هوى، قول فصل وليس بالهزل، لا تخلقه الألسن، ولا يثقل على طول الرد، ولا تفنى عجائبه، فيه أثر من كان قبلكم، وخير من هو كائن بعدكم) (1).
وروى الهادي عليه السلام (2) عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (أقيموا صفوفكم ولا تختلفوا فيخالف الله بين قلوبكم) (3).
قلت: ولا يتوهم قصره على السبب، لأن الأسباب لا تمنع
صفحة ٣٧
الألفاظ عن إفادة معانيها. ألا ترى أنه يصح أن تقول لغلمانك عند عصيان بعضهم: كل من عصاني عاقبته بكذا. وأن تقصد بذلك جميعهم بلا نصب قرينة، لأن ذلك مما يدل عليه اللفظ بحقيقته. وألا ترى إلى آية الظهار (1) فإن سبب نزولها: ظهار أوس بن الصامت من زوجته خولة بنت ثعلبة، ولم تكن الآية مقصورة على ذلك السبب وحده.
وروى الحسين بن القاسم عليه السلام (2) في (تفسيره) (3) عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ما لفظه أو معناه:
(ألا لا يقتتل مسلمان ولا يختلف عالمان) (4).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ستفترق أمتي إلى ثلاث
صفحة ٣٨
وسبعين فرقة كلها هالكة..) (1) الخبر، ولم يفصل في أيها كذلك.
قلت وبالله التوفيق: وجميع ذلك من الكتاب والسنة نصوص صريحة في تحريم الاختلاف في أصول الدين وفروعه، للقطع بانتفاء المخصص، كما نبين إن شاء الله تعالى في الرد على من خالفنا في ذلك، لأنهم قد بحثوا عن المخصص أشد البحث وتمحلوا له بما سنقف عليه إن شاء الله.
[آراء العلماء في حكم الاختلاف] وذلك (2) مذهب قدماء العترة عليهم السلام، ومن وافقهم من متأخريهم، ومن سائر علماء الإسلام (3).
صفحة ٣٩
وقالت البصرية من المعتزلة ومن وافقها: بل هي (1) خاصة بما عدا المسائل الفروعية الظنية.
قالوا: والمخصص لها وقوع الاختلاف بين الصحابة.
قالوا: وذلك إجماع منهم، لعدم النكير من بعضهم على بعض.
قال الإمام يحيى [بن حمزة] عليه السلام (2) في (شرح نهج البلاغة) (3): (ولم يسمع من أحد منهم إنكار على صاحبه فيما ذهب
صفحة ٤٠
إليه ولا ذم، بل يعتذرون في المخالفة، بأن يقولوا: هذا رأيي وهذا رأيك).
قالوا: ولينقض أحد منهم حكم صاحبه.
ومما احتجوا به أيضا على ذلك: ما روي عن أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد) (1). وما روي عن عقبة بن عامر، عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إقض بينهما - يعني خصمين - فإن أصبت فلك عشر حسنات، وإن أخطأت فلك حسنة واحدة) (2).
قالوا: والشرائع مصالح، فلا يمتنع أن يخاطب الله بمجمل يريد من كل ما فهمه، لأن المصالح تختلف باختلاف الناس.
ثم قالوا: ولا حكم لله فيها معين، وإنما مراد الله تابع لما أداه
صفحة ٤١
نظر المجتهد، لأن نظر المجتهد تابع لمراد الله تعالى.
قال بعضهم: بأنه لا يخلو إما أن يريد الله من كل ما أداه إليه نظره، أو يريد ذلك من بعض دون بعض، أو لا يريده من الكل.
الثالث باطل، لأنه خلاف الإجماع، الثاني باطل أيضا، لأنه محاباة، ومن وصف الله بها كفر، لأنها لا تجوز عليه، بقي الأول.
وقال بعض الناس: بل كل مصيب (1) في الفروع والأصول واحتجوا على ذلك بأن قالوا: لا إثم على من طلب الحق.
[مناقشة الآراء] فنظرنا في هذه الثلاثة الأقوال، فإذا الثالث منها ساقط لمصادمته النصوص.
وأما قولهم: لا إثم على من طلب الحق فعدم الإثم لا يدل على التصويب للمختلفين، لأنه قد ينتفي عن المخطئ والساهي عن الصواب لقوله تعالى: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) [الأحزاب: 5].
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان) (2)،
صفحة ٤٢
(الخير، لأن الطلب غير المطلوب (1)، وليس كل طالب شئ لا يخطئه) (2) وذلك بحمد الله واضح.
ثم نظرنا في الباقيين، فإن الثاني منهما ساقط أيضا، لأنا نظرنا فيما ادعاه أهل هذا القول من إجماع الصحابة على القول بالتصويب في مسائل الفروع الظنية، فإذا هو لم ينقل عن أحد القول به قبل البصرية.
[وقوع الاختلاف بين الصحابة لا يدل على التصويب] وأما وقوع الاختلاف بين الصحابة فلا يدل (3) على أنهم يقولون بالتصويب، لأن الأفعال لا دلالة لها على المعاني المترجم عنها بالقول، كخرق الخضر عليه السلام للسفينة، فإن موسى عليه السلام لم يفهم بمجرده ما الغرض منه. بلى قد يكون (4) ما يعتاد لأمر قرينة على تحصيله لذلك الأمر، كالأكل والشرب فإن كل واحد منهما قرينة على تحصيله للحاجة المخصوصة من الجوع أو الشهوة أو العطش.
صفحة ٤٣
فوقوع الخلاف بينهم قرينة على تخطئة كل لصاحبه، لأن العاقل - في مجرى العادة - لا يخالف صاحبه فيما اتفقا على طلبه، إلا لأنه أنكره وادعى خطأه، وإلا لوافقه لارتفاع المانع.
وأما دعوى عدم النكير من بعضهم على بعض، فباطلة لأنه نقل بالأخبار المتواترة وقوع النزاع بينهم في ذلك، ومن عادات العقلاء أنه لا يقع بينهم نزاع إلا فيما ينكره بعضهم على بعض، وأيضا قد وقع التصريح بالنكير من علي عليه السلام في كثير من المسائل، قال العلماء: ورجع عمر إليه في ثلاث وعشرين مسألة.
وصرح أيضا بالتخطئة في مشهد من الصحابة فقضية المرأة التي استحضرها عمر فأسقطت حوفا منه، فاستشارهم عمر، فقال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان: إنما أنت مؤدب لا نرى عليك شيئا. فقال علي كرم الله وجهه في الجنة: إن كانا قد اجتهدا فقد أخطأ، وإن لم يجتهدا فقد غشاك. وفي رواية أن القائل بذلك عبد الرحمن بن عوف وحده. فقال علي عليه السلام: إن كان قد اجتهد فقد أخطأ وإن لم يجتهد فقد غشك. وفي رواية أخرى:
فاستشار عمر جماعة الصحابة، فقالوا: لا شئ عليك لأنك مؤدب.
فقال علي عليه السلام: إن كانوا قد جهلوا فقد أخطأوا، وإن كانوا عرفوا فقد غشوك (1). ولم ينازعه أحد منهم في التخطئة، ولو كان
صفحة ٤٤
القول بالتصويب مذهبا لبعضهم لنازعه فيها، كما ينازعونه في كثير من المسائل، لما كان مذهبهم فيها خلاف مذهبه.
لا يقال: إنهم قصروا في الاجتهاد، فنكيره عليه السلام إنما وقع لأجل التقصير، لأنا نقول وبالله التوفيق: حقيقة الاجتهاد عند البصرية ومن وافقها: بذل الوسع في تحصيل الظن بحكم فرعي، عند أكثرهم مطلقا، وعند أقلهم: لا من قبل النصوص والظواهر (1).
وعلي عليه السلام قد صرح بلفظ الاجتهاد في الروايتين وحكم بأنه خطأ، وفي قولهم: إنما أنت مؤدب. دلالة على دعوى حصول الاجتهاد منهم حيث عللوا بذلك، ولم يقولوه خبطا، فشك علي عليه السلام فيها، فقسم قولهم فيها إلى: الخطأ والغش في روايتين، وإلى: الجهل والغش في أخرى، لأن المخطئ جاهل فيما أخطأ فيه إجماعا، فلما ثبت أنه عليه السلام قد صرح بلفظ الاجتهاد، وثبتت الدلالة على دعوى الاجتهاد منهم، وجب أن يحمل اللفظ على حقيقته المعروفة بين أهل الشرع، لاقتضاء المقام ذلك ضرورة، ولا مقتضى للعدول عنها، ولأن التقصير في استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها وأمارتها لا يسمى اجتهادا في عرف أهل الشرع إجماعا.
وروي عنه عليه السلام في (نهج البلاغة) أنه قال: (ترد على
صفحة ٤٥
أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم بخلاف قوله، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم، فيصوب آراءهم جميعا، وإلههم واحد، ونبيهم واحد، وكتابهم واحد، أفأمرهم الله - سبحانه - بالاختلاف (1) فأطاعوه؟! أو نهاهم عنه فعصوه؟! أم أنزل دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟! أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟! أم أنزل دينا تاما فقصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن تبليغه وأدائه؟!
والله سبحانه يقول: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) [الأنعام: 38].
وقال: (تبيانا لكل شئ) [النحل: 89]، وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا، وأنه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) [النساء: 82]، وإن القرآن ظاهره أنيق، وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلا به) (3).
قلت وبالله التوفيق: ولعل هذا جرى مجرى اقتصاص الملاحم،
صفحة ٤٦
لأنه لم يرو عن أحد من الصحابة القول بالتصويب (1).
وقال عليه السلام في خطبة: (فيا عجبا وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها) (2).
وروي عنه عليه السلام، و [عن] زيد بن ثابت وغيرهما تخطئة ابن عباس في عدم القول بالعول.
وروي عن ابن عباس أنه خطأ من قال بالعول، وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال: ((ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا).
وروي أن أبا بكر سئل وهو على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الكلالة، فقال: (سمعت فيها، وسأقول فيها برأيي فإن أصبت فالله وفقني، وإن أخطأت فالخطأ مني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريان). فصرح بالرأي، وهو في عرف أهل الشرع يطلق على الاجتهاد والقياس والحكم، ولم ينقل أنه
صفحة ٤٧
نوزع في التخطئة، ولو كان التصويب مذهبا لبعضهم لنازعه ونقل.
وروي أن كاتبا كتب عند عمر: هذا ما أرى الله عمر. فقال عمر: (إمحه وأكتب: هذا ما رأى عمر، فإن يك صوابا فمن الله، وإن يك غير صواب فمن عمر).
وروي عن عمر أيضا أنه قال: (لا يقولون أحدكم: قضيت بما أراني الله، فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن ليجتهد رأيه).
وروي أن ابن مسعود سئل عن امرأة مات عنها زوجها ولم يفرض لها صداقا، فقال: (أقول فيها برأيي، فإن يك صوابا فمن الله وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريان) (1).
وفي رواية أخرى: فإن يكن خطأ، فمن ابن أم عبد، إلى غير ذلك.
وتأويل ما روي من ذلك بأنه للتشديد في الاجتهاد فقط تلعب بأقاويل أكابر الصحابة بلا دليل، إلا أنه خلاف مذهب المتأول، إذ لو صح ذلك التأويل لكان من اعتنق (2) مذهبا مبتدعا على الصواب، لأنه يمكنه شبه ذلك التأويل في كل دليل، فيقول الباطني: لا جنة ولا نار، وإنما الوعد لمجرد الترغيب، والوعيد لمجرد الترهيب، وذلك
صفحة ٤٨
خلاف ما علم من الدين ضرورة.
وأيضا قد وقع الخلاف بين الصحابة في الإمامة، والسكوت من الجميع بعد النزاع فيها، كما وقع الخلاف والسكوت بعد النزاع في مسائل الفروع، والإمامة من الأصول، فلو كان ذلك تصويبا منهم لجرى في الأصول كما جرى في الفروع، والفرق تحكم (1).
وأيضا لا خلاف أن السكوت لم يقع من الصحابة إلا بعد النزاع في مسائل الخلاف والإياس من رجوع المخالف إلى صاحبه. ومن قواعد كثير من أئمتنا عليهم السلام ومن وافقهم من علماء الإسلام: أنه لا يجب النكير إلا عند ظن التأثير، وبعد النزاع والإياس من رجوع المخالف ينتفي ظن التأثير ضرورة فكيف يعتد بسكوتهم مع ذلك في تخصيص الأدلة القطعية.
وأما ما حكاه الإمام يحيى عليه السلام من تولي بعضهم بعضا، وعدم الذم واعتذارهم بقولهم: هذا رأيي. فبمراحل عن الدلالة على التصويب، لأن الخطأ لا يمنع التولي، ولا يبيح الذم، لكونه معفوا عنه، وقد مر الدليل على كونه معفوا عنه، وقولهم: هذا رأيي وهذا رأيك. لا يدل عليه لا بصريحه ولا بفحواه، ألا ترى أنه يصح أن
صفحة ٤٩
نقول للجبري: هذا مذهبي وهذا مذهبك، ونقول لليهودي: هذا ديني وهذا دينك اجتماعا، ولو كان ذلك يدل على التصويب لما جاز، وأيضا قد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول للكفار: (لكم دينكم ولي دين) [الكافرون: 6] ولم يكن ذلك تصويبا لهم، مع أنه أوكد من قولهم: هذا رأيي وهذا رأيك، لأن فيه الإضافة ولام الاختصاص (1)، وذلك لم يكن فيه إلا الإضافة فقط.
وأما دعوى عدم نقض بعضهم لحكم صاحبه - إن صح - فلصيانة أحكام المصيبين عن أن ينقصها المخطئون، كما يدعيه - في عدم نقض الأحكام المختلف فيها - المخالفون لنا في هذه المسألة، لأنهم يقولون: لو جاز نقضها لم يستقر حكم البتة، لأن كل حاكم يستجيز حينئذ نقض كل حكم يخالف مذهبه، ويفعل ذلك كما فعل غيره، وكذلك هذا إذ لا فرق، وهو كاف في حل شبهتهم لكونه عندهم حجة.
مع أن التحقيق أنه لم يصح ذلك، لأن عليا عليه السلام رد قطائع عثمان، وفعل عثمان في قطائعه جار مجرى الحكم لكونه خليفة في اعتقاد نفسه في الظاهر، وفعل الخليفة في نحو ذلك جار مجرى الحكم بلا خلاف أعلمه.
صفحة ٥٠
وأما خبر أبي هريرة وخبر عقبة بن عامر (1) فهما حجة لنا، لأن فيهما التصريح بالتخطئة، وأما الأجر والحسنة المذكوران فيهما للمخطئ فثواب من الله تعالى على النظر، لأنه عبادة إجماعا، لا على الحكم بالخطأ، وإنما هو معفو عنه فقط، لقوله تعالى: (ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) [الأحزاب: 5] (2).
وأما قولهم: الشرائع مصالح فلا يمتنع أن يخاطب الله بمجمل يريد من كل ما فهمه، لأن المصالح تختلف باختلاف الناس، فمعارض بقولنا: لا يمتنع أن يبيح الله كل ما وقع عليه النصوص من المحرمات لبعض من الناس دون بعض، لأن المصالح فيها تختلف باختلاف الناس فيكون الخمر حلالا لزيد حراما على عمرو!! وهذا خلاف ما علم من الدين ضرورة، والفرق بينه وبين ما قالوا معدوم، إذ لا دليل ولا مخصص، وإن كان غير ممتنع من العقل (3).
وممنوع من كون الشرائع اللازمة مصالح، لأنها شكر، من حيث
صفحة ٥١
أنه يجب في قضية العقل امتثال المالك المنعم (1) في ما أمر به ونهى عنه لأجل النعم السابغة والملك، وذلك حقيقة الشكر، ألا ترى أن العقلاء يذمون العبد المخل بامتثال أمر سيده المنعم عليه، ويقضون بحسن عقوبته، دون من لم يعقد في عنقه لأحد نعمة فإنهم لا يوجبون عليه شيئا لمن أمره أو نهاه ولا يذمونه في ترك ذلك وبذلك نطق القرآن المجيد، قال تعالى: (اعملوا آل داود شكرا) [سبأ: 13]، وانعقد عليه إجماع قدماء العترة عليهم السلام.
وقد جعل سبحانه التكليف بشكره متحدا إلا في أشياء معينة محصورة، نحو ما اختص به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الواجبات، وكذلك الأئمة، وكذلك ما يختص به الرجال دون النساء من الجهاد والجمعة والأذان، ونحو ذلك وهذه لم ترد مورد الخلاف فيقاس عليها جواز الخلاف في غيرها، ومن ذلك ما يختص به كل من استقبال الجهات بالصلوات عند اختلاف الظنون في القبلة، لأنه متفق على ذلك، وبالاتفاق عليه لم يقع التفرق في الدين (2)، وإنما أرشد ذلك إلى أنه من باب الاختصاص، كاختصاص
صفحة ٥٢
الجهاد بالرجال، بخلاف سائر المسائل المختلف فيها، فإنها لم تقم دلالة البتة على أنها من باب الاختصاص، فتأمل.
وأما قولهم: لا حكم لله فيها معين. فنقول وبالله التوفيق: لا يخلو: إما أن يكون الحكم الذي حصل بنظر المجتهد مما أنزل الله تعالى، أو لا. إن كان مما أنزل الله، بطل قولهم، وصار معينا عند الله سبحانه، لأنه لا ينزل سبحانه إلا ما قد عينه وأثبته، إذ خلاف ذلك لا يصدر إلا عن جهل وذهول، والله تعالى منزه عنهما، وأيضا فإن الله سبحانه قد أثبته إذ أنزله وعلم من حصله بنظره وكلفه أن يعمل به، فكيف لا يكون مع ذلك معينا عنده.
وإن كان من غير ما أنزل الله سبحانه فليس من الشرع، لأنه لم يشرعه حيث لن ينزله، وقد قال الله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) [المائدة: 45] ونحوها ولم يفصل.
وأما قولهم: إن مراد الله تابع لما أداه نظر المجتهد (1) لأن نظر المجتهد تابع لمراد الله.
فنقول وبالله التوفيق: لا يخلو إما أن يكون ما أداه نظر المجتهد من الحكم مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو لا، إن كان الأول بطل قولهم، لأن جميع ما جاء به رسول الله صلى الله
صفحة ٥٣
عليه وآله وسلم مرادا لله تعالى، وذلك معلوم من الدين ضرورة، وأيضا جميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم صراط الله المستقيم، وقد قال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه) [الأنعام: 153]، وذلك نص في اتباع صراطه الذي هو مراده تعالى بلا خلاف.
وإن كان الثاني فليس من الشرع، لأنه ليس مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا من صراط الله الذي أمر باتباعه، وإنما هو من السبل التي قال تعالى فيها: (ولا تتبعوا السبل فتتفرق بكم عن سبيله) [الأنعام: 153].
وأما قول بعضهم: لأنه لا يخلو إما أن يريد الله سبحانه من كل ما أداه إليه نظره، أو يريده من بعض دون بعض، أو لا يريد ذلك من كلهم. الثالث باطل، لأنه خلاف الإجماع، والثاني باطل أيضا، لأنه محاباة، ومن وصف الله بها كفر، فثبت الأول.
فنقول وبالله التوفيق: إن هذا القول لا يخلو من جهل، أو تمويه على الجهال الذين لا يفقهون، لأن القائلين بتحريم الاختلاف يقولون: إن الله يريد من كل قضية طلب حكم واحد، إذ أمر الله سبحانه بالاجتماع في الدين دون التفرق، فإن اجتمعوا عليه فذلك مراده منهم، وإن أصابه بعض وأخطأه بعض، فقد أصاب (1)
صفحة ٥٤