من بين مواطن القوة الأساسية لكتاب «الإقليمية البشرية» قابليته الانسيابية للتطبيق على كل مستويات الواقع الاجتماعي، من الشخصي إلى الدولي. ثمة سمة أخرى قد تكون بالنسبة إلى البعض موطن قوة، ولكنها بالنسبة إلى البعض الآخر موطن ضعف؛ هي حياديته الصريحة الواضحة فيما يتعلق بالنظريات الاجتماعية. يشتهر الكتاب أيضا بطابعه التاريخي العميق. والواقع أن كتاب «الإقليمية البشرية»، كما يشير العنوان الفرعي، يعنى بتدفق (أو توقف) الزمن تقريبا مثلما يعنى بتنظيم الحيز الاجتماعي. يعرض كتاب «الإقليمية البشرية» عددا من القصص التاريخية التي تستكشف استمراريات وتحولات الهياكل الإقليمية. ومن الموضوعات المهمة التي تنظم الكتاب الحداثة وتميزها في مقابل حقبة ما قبل الحداثة . وفيما يتعلق بهذا الموضوع، ومن خلال قراءة «الإقليمية البشرية» على مدى 20 عاما من العمل اللاحق على الموضوع، يندهش المرء من كم ما طرأ عليها من تغير. ومنذ وقت نشر «الإقليمية البشرية» مرورا بفترة تسعينيات القرن العشرين، أخضعت الحداثة ذاتها لنوعية مختلفة تماما من التحليل؛ فبدأ باحثون من جميع العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية تقريبا في تخيل الحداثة بطرق «غير» حديثة على نحو مميز؛ إذ يتخيلونها وكأن لها نهاية، إن لم تكن قد انتهت بالفعل. وقراءة «الإقليمية البشرية» من خلال منشور الاهتمامات بحقبة ما بعد الحداثة (أو ضبابها، على حسب وجهة نظر الفرد) من شأنها الكشف عن عدد من الافتراضات والالتزامات بشأن العالم وبشأن المعرفة التي يستند إليها الكتاب.
في الصفحات التالية سوف أعرض أولا نظرة عامة للكتاب فصلا فصلا. إن أي كتاب (بما في ذلك الكتاب الحالي) هو بالضرورة نتاج لزمنه ومكانه والتزامات مؤلفه. وفي النصف الثاني من الفصل سوف أبحث هذه الجوانب السياقية، لا كقيود أو مواطن قصور، ولكن لمجرد الإشارة إلى بعض من حدود «الإقليمية البشرية» مثلما تكشف عنها الصياغات اللاحقة للإقليم، كتلك التي نوقشت في الفصل السابق. وإذا كان كتاب «الإقليمية البشرية»، الصادر في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، إنجازا منقطع النظير لمساعدته إيانا في رؤية الإقليم، والنظر حوله وبداخله، فإن الاجتهادات الأحدث تمكننا من رؤية هذا المنظور ذاته في ضوء مختلف؛ فهي تتيح لنا التساؤل عما يتصدر المشهد وما يقبع في الخلفية، وما هو في بؤرة التركيز وما هو مهمش في وصف ساك. وينبغي أن يكون غنيا عن القول أن بحث أي عمل من داخل مجموعة مختلفة من الافتراضات لا يشكل في حد ذاته نقدا سلبيا، ما لم تتم مشاركة هذه الالتزامات البديلة؛ بل إن السمات التي قد تعد نقائص، من وجهة نظر ما، قد تكون هي ذاتها الميزات الأساسية التي تجعل عملا ما ذا جدوى وصلة مستمرتين. سوف أقصر ملاحظاتي فقط على نص كتاب «الإقليمية البشرية»، ولن أتعقب التطورات في إسهامات ساك اللاحقة والجوهرية في النظرية الجغرافية والاجتماعية والأخلاقية (سام 1997، 2003). بعد ذلك سوف أبحث الكتاب في إطار أربعة موضوعات ظهرت كموضوعات أقل أو أكثر محورية لمناقشات أكثر حداثة حول الإقليمية: طبيعة (طبائع) الحداثة، الخطاب والتمثيل، الهوية، السياسة. والسياسة، بالطبع، لا تعد في حد ذاتها شاغلا جديدا في الفكر الاجتماعي، غير أن السياسة أصبحت تفهم الآن على نحو مختلف في ضوء التساؤلات حول الحداثة، والخطاب، والهوية؛ وهذه الأمور، بدورها، تنعكس على الكيفية المحتملة لفهم الإقليم. علاوة على ذلك، إذا كان ثمة نقد عام واحد موجه إلى «الإقليمية البشرية»، فهو أنه في الوقت الذي يعد فيه مفهوم السلطة موضوعا محوريا - بل تعريفيا - تكون السياسة بأي معنى قوي شبه غائبة. (2) نظرة عامة
يأخذنا ساك في مقدمته داخل مجال الإقليمية، فيكتب قائلا: «إن المعرفة العلمية السابقة» حتى ذلك الوقت «لم تسلط الضوء إلا على حدود تلك الإقليمية فقط» (ص1). وبالرغم من كون هذا هجوما مبدئيا، فإنه لم يطلق أي ادعاء بأن كتاب «الإقليمية البشرية» يمكن أن يكون أكثر من «مسودة» ودعوة لمزيد من الاستكشاف. وبينما يتجاوز الكتاب حدود الهدف المتواضع المتمثل في تمهيد الطريق واستطلاعه، من المهم وضع هذا القيد المفروض ذاتيا عند دراستنا لاحقا لموضوعات وقضايا قد أغفلت من النقاش. وتكمن خطوته الاستهلالية، على نحو ملحوظ، في تمييز الإقليمية «البشرية» على نحو قاطع عن السلوك الإقليمي مثلما قد يلاحظ لدى الحيوانات غير البشرية (أو النباتات من هذا المنظور). وكما رأينا في الفصل الثاني، يقدم بعض المؤلفين الفرضية المضادة تماما. ومن ضمن السمات التي تجعل الإقليمية البشرية فريدة من نوعها لدى ساك، بعض الخصائص التي يعتقد على نحو شائع أنها تجعلنا بشرا على نحو مميز، مثل القصدية، والتواصل المعقد، والطبيعة التاريخية ذات النهاية المفتوحة، وبناء المؤسسات، وما شابه؛ فالإقليمية بالنسبة إلينا ليست «مدفوعة بيولوجيا، بل متأصلة اجتماعيا وجغرافيا» (ص2). وهذا ليس مجرد زعم بشأن الأصول، بل هو في الأساس زعم بشأن التفسير. وعلى عكس النظريات التي تشبه الإقليمية البشرية بالضرورات الغريزية أو البيولوجية، يرى ساك أن النظر «داخل» الإقليم يستتبع فحصه ودراسته داخل أطر مرجعية اجتماعية، أو تاريخية، أو ثقافية محددة؛ أي إن مهمة ساك هي نزع الصفات الطبيعية عن الإقليم. (2-1) المعاني
يبدأ الفصل الأول، «معنى الإقليم»، في تفسير وشرح مجال نظرية ساك وتاريخه على نحو أكثر استيفاء عن طريق التناقضات التعريفية، ويبدأ بتعريف تقريبي مبدئي. «الإقليمية بالنسبة إلى البشر استراتيجية فعالة للتحكم في الأشخاص والأشياء عن طريق التحكم في المساحة» (ص5). إنه مفهوم علائقي بالضرورة؛ إذ يتعلق بتحكم الأشخاص في الأشخاص، وهو يرتبط على نحو معقد بالسلطة (التحكم). إنه مفهوم استراتيجي. وهكذا فإن من بين الأهداف الأساسية للكتاب «تحليل المزايا والمساوئ المحتملة التي يمكن أن تجلبها الإقليمية» (ص5). وفي التعبير عنها على هذا النحو تبدو الإقليمية معنوية فيما يتعلق بما إذا كانت المزايا والمساوئ تعود إلى الأشخاص المسيطرين أم إلى الأشخاص محل السيطرة. يطرح ساك أيضا الموضوعات المهمة المتعلقة بالتاريخ والحداثة، فمن خلال مجموعة من الدراسات الزمانية يوضح أن «بعض الآثار الإقليمية عامة؛ إذ تحدث في أي سياق تاريخي وأي تنظيم اجتماعي، والبعض الآخر مقتصر على فترات وتنظيمات تاريخية معينة، وأن المجتمع الحديث فحسب هو الذي يميل إلى استغلال المجموعة الكاملة للآثار المحتملة» (ص6). ومن بين مزايا استكشاف الإقليمية فيما يتعلق بالحداثة أنها يمكن أن «تساعدنا على كشف معاني وتداعيات الحداثة والدور المستقبلي للإقليمية» (ص6). وعن طريق توضيح مركزية موضوع الحداثة، يتألف الفصل الأول من ثلاثة أمثلة توضيحية؛ أما أولها، والأكثر تفصيلا وإطنابا، فيبحث التغيرات في استخدام الإقليم بين شعوب التشيبيوا بوسط أمريكا الشمالية (أو بالنسبة إليهم)، من حقبة ما قبل الاحتكاك (ما قبل الحداثة) خلال فترة الاحتكاك مع الأمريكيين الأوروبيين وغزوهم. وأما المثالان الثاني والثالث، فيتعاملان مع أمثلة للإقليمية الجزئية في الحياة الحديثة؛ المنزل ومكان العمل.
تشتق العناصر الأساسية لاستخدامات التشيبيوا (إحدى القبائل الهندية الكبيرة في أمريكا الشمالية) للإقليمية، في مثال ساك، من عناصر البنية الاجتماعية واقتصاديات استخدام الموارد؛ فيصف التشيبيوا بأنهم لا يمتلكون بنية سياسية منظمة تشبه دولة حديثة، ويتركز تنظيمهم الاجتماعي حول «طوائف» مستقلة، وهم منغمسون على نحو كبير في أنشطة الصيد وجمع الثمار (وزراعة الكفاف في الجزء الجنوبي من منطقتهم) ومتساوون اجتماعيا. والمساواة هنا تشير إلى غياب التقسيم الاقتصادي القائم على الطبقة الاجتماعية؛ أما المحاور الأخرى للامساواة، كتلك الخاصة بالسن أو النوع أو العشيرة، فلا توضع في الاعتبار. فقد كان شعوب التشيبيوا في فترة ما قبل الاحتكاك «إقليميين إلى أدنى حد» (ص7) بفهم ساك الخاص للكلمة.
تذبذبت المنطقة التي تشغلها شعوب التشيبيوا موسميا وعلى مدار السنين؛ فلم تكن إقليما محددا على نحو جلي في مقابل الشعوب الأصلية، ولم يكن يوجد أيضا أقلمة موسعة داخل مجتمعاتهم، حتى المساحات المخصصة للحدائق «لم تكن أقاليم مسيجة ومحددة تحديدا واضحا» (ص8). ويجب التنويه إلى أنه في ضوء التعقيد المحيط بأي نظام اجتماعي، ربما كان يوجد جوانب للإقليمية لم ينتبه إليها ساك. ومع ذلك، تساعد هذه الرؤية للتنظيم الاجتماعي على تخيل العمليات التي قد تتشكل بها تعبيرات أكثر - أو مختلفة - للإقليمية؛ ففي تجربة فكرية يقدم ساك التغيرات التي تنشأ داخل وخارج البنية الاجتماعية لحياة التشيبيوا، مثل ندرة الموارد بالنسبة إلى الصيادين أو ازدياد التركيز على الزراعة، التي قد تخلق ظروفا قد يجد بموجبها بعض الناس أن من «الملائم» إحاطة الحقول بالأسوار، على سبيل المثال، أو استخدام الإقليمية على نحو أكثر كثافة؛ أو أن زيادة متخيلة في السكان تسفر عن الازدحام قد تؤدي إلى قواعد أكثر صرامة فيما يتعلق بتخصيص المساحات الخاصة بالحدائق. ويتقدم بالأمر قليلا فيطلب ساك من القارئ أن يتخيل أنه، تحت ظروف كهذه، «يمكن أن تخرج عائلة حاكمة مدعية حقها في استغلال بعض أو كل موارد المجتمع» (ص9). تحت هذه الظروف من تزايد التدرج الهرمي أو التصنيف الطبقي، «تكون الإقليمية آلية نافعة إلى أقصى الحدود للتأثير على ادعاءات العائلة الحاكمة» (ص9). والفكرة الأساسية وراء هذا التدريب التخيلي هي تعزيز الفكرة الأساسية المتمثلة في أن الحياة الاجتماعية والبنية الاجتماعية لا يمكن فصلهما عن الإقليمية. والواقع أنه بينما انطبق هذا النموذج على شعوب أخرى في حقبة ما بعد الحداثة، كان الأمر الأهم للتشيبيوا، وكذا لشعوب العالم الأصلية الأخرى، هو توافد غرباء يحملون أفكارا غريبة عن الإقليم، وعن التصنيف، والتواصل، وفرض السيطرة.
جاءت التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي كان منشؤها في أوروبا، أو مستعمراتها على ساحل الأطلنطي، أو في المكسيك، في البداية بطريقة غير مباشرة نوعا ما؛ فقد أدى دخول الخيول والأمراض والشعوب الأصلية القادمة من الشرق والمشتغلة في صيد حيوانات الفراء لصالح السوق الأوروبية، وجماعة المستكشفين؛ إلى جلب تحولات وتغيرات عميقة على حياة التشيبيوا. ولم تكن هذه العوامل الوسيطة تحترم إقليمية شعب التشيبيوا على نحو واضح. وينحصر تخمين ساك هنا فيما إذا كانت هذه التغيرات قد أثارت إحساسا متزايدا بالملكية والسيطرة على مناطق الصيد. وبالنظر إلى أن شعوب الشرق الأصلية نفسها قد أرغمت على النزوح غربا بفعل الاستكشاف والاستيطان الأوروبي، حدثت تغيرات أخرى كان لها تأثير على الإقليمية. ومما كان في منتهى الأهمية الطرق المختلفة التي «تخيل» بها مواطنو الشرق العصريون الإقليم. وكما نعلم جميعا، كان يوجد تخيل أن الأرض التي أصبحت فيما بعد «أمريكا» قد «اكتشفت» بواسطة الأوروبيين. وعلى الرغم من أن الآخرين لم تكن لديهم أي فكرة عن أنهم كانوا رهن الاكتشاف، فقد ادعى العصريون في «عصر الاكتشاف» امتلاك ما لم يروه قط، أو حتى لم يكن لديهم مبررات للمعرفة بوجوده. وقد وثقت ادعاءات الملكية والسيادة بواسطة حكام الدول الأوروبية فيما يتعلق أحدهم بالآخر، وليس، كما في البداية، فيما يتعلق بالشعوب الأصلية، الذين يعرفون الآن على نحو جماعي ب «الهنود». ومن هذه «الادعاءات» آلت «المنح» للمستعمرين، ومن هذه المنح آلت منح فرعية أخرى للمضاربين والمستوطنين. ومرة أخرى، كانت هذه الادعاءات الإقليمية نسبية للمضاربين والمستوطنين، وربما كان هذا الأسلوب الجديد لأقلمة العوالم الحياتية لشعب التشيبيوا (وشعوب أخرى عديدة) سيظل خياليا أكثر منه واقعيا لولا الطرق التي فرضت بها هذه المفاهيم المؤقلمة ل «السيادة» و«الملكية» على الشعوب الأصلية. ويكتب ساك أنه «بجرة قلم، كان الأمريكيون المنحدرون من أصول أوروبية يصنفون الناس، ويقسمونهم، ويتحكمون بهم، بمن فيهم التشيبيوا، استنادا إلى موقعهم داخل الحيز فقط» (ص11). ولكن قد نلاحظ أن القلم لم يكن حاسما في ذلك بقدر بنادق المسكيت والسلع التجارية المصابة بعدوى الجدري. وفيما يتعلق بتغيرات الإقليم، يشدد ساك على عمليات وممارسات المسح والتقسيم والتقسيم الفرعي وخصخصة الأرض، إلى جانب تأسيس الأقاليم السياسية المحلية والحكومية والقومية باعتبارها الأكثر أهمية. وفي غضون فترة قصيرة نسبيا كان أثر نوعية مختلفة تماما من الإقليمية قد طبع على هذا الجزء من العالم.
ومن أجل توضيح أقوى للتناقض بين الممارسات الإقليمية الحداثية وما قبل الحداثية، يصحبنا ساك إلى منزل ومكان عمل معاصرين خياليين في ويسكونسن، التي تعد جزءا من موطن التشيبيوا. وبينما لا يوجد تطابق من الناحية العرقية بين الناس الذين نقابلهم هنا، فإنه لا يوجد سبب لافتراض أن بعضا منهم، على الأقل، ليسوا من التشيبيوا أنفسهم. في المثال الأول يقوم أب يجلس بالمنزل بأعمال البيت، بينما يحاول طفلاه الصغيران «المساعدة» بغسل الصحون، وهي المهمة التي تتجاوز قدراتهما على نحو واضح. وفي ظل إدراكه نيتهما الطيبة وكذا عدم كفاءتهما - وتقديره لسلامة الآنية والصحون - يرى أن لديه اختيارين؛ بإمكانه أن يشرح لهما لماذا ينبغي ألا يفعلا ذلك، أو يمكنه ببساطة أن يعلن أن المطبخ «منطقة محظورة». ويمثل الاختيار الثاني الإقليمية كتأكيد للسيطرة على مساحة ما. كذلك يوضح هذا المثال حقيقة أن مكانا ما «يمكن أن يكون إقليما في فترة ما دون الأخرى» (ص16)؛ فقبل صدور الأمر الأبوي كان المطبخ مجرد غرفة، أما الآن، وبعد أن أصبح مشمولا بحظر، فهو إقليم. (غير أنك قد تتخيل استراتيجيات إقليمية أخرى أكثر صرامة، مثل حبس الطفلين في حجرة صغيرة، أو طردهما إلى الشارع.) وعلى الرغم من أن جزءا من هذا المثال التوضيحي هو المقارنة بين الحداثي وما قبل الحداثي، فبمقدورك أن تتخيل آباء التشيبيوا في حقبة ما قبل الاحتكاك يأمرون أبناءهم بالابتعاد عن حيز ما ذي حدود واضحة.
يصف المثال الأخير في الفصل الأول مكان عمل يلزم فيه السكرتير بالبقاء في «وحدة العمل» المخصصة له. ربما تكون لديه الحرية في التنقل من آن لآخر عبر الأروقة، أو دخول غرفة تناول القهوة أو الغرفة المخصصة للرجال (والمهاجع)، ولكن ليست لديه الحرية لدخول المكاتب. ولو أنه أساء استغلال امتيازات التحرك المخولة له، لنقل، بالتسكع في غرفة البريد، لكان من الممكن أن يتعرض لعقوبة إقليمية صارمة؛ تتمثل في فصله من مكان العمل بإنهاء خدمته. «إن الإقليمية بالنسبة إلى السكرتير تعد بمنزلة قيد مادي» (ص17)؛ فبعد الساعة الخامسة يصبح المبنى، فعليا، منطقة محظورة لمعظم العاملين، غير أن الحارس قد يكون له حق الدخول إلى كل غرفة في المبنى. ولكن قد تتخيل هنا أن الأقاليم الجزئية لأدراج المكاتب والأظرف تظل خارج نطاق عتبة الاستكشاف؛ ويعد هذا، من أوجه عدة، تشكيلا إقليميا حديثا نموذجيا تتحدد فيه حرية الدخول بالرجوع إلى مجموعة من الأدوار والقواعد، ومفاهيم الملكية والسلطة، ومفاهيم محددة ثقافيا للزمن المتري.
يختتم الفصل الأول بتعريف أكثر استيفاء للإقليمية: «محاولة فرد أو مجموعة التأثير على الناس، والظواهر والعلاقات أو التحكم بها، عن طريق تحديد وتأكيد السيطرة على مساحة جغرافية ما» (ص19). وهنا أيضا يميز ساك الإقليم عن المفاهيم المتصلة به الخاصة ب «المكان» و«المنطقة»، ويشير إلى الفروق الدقيقة في مفهومه؛ فيشير، على سبيل المثال، إلى أن الأقاليم يمكن أن تتغير ويمكن أن تظهر بدرجات؛ فنجد أن «سجنا على أعلى درجة من التأمين أكثر إقليمية من زنزانة في سجن إقليمي، يكون بدوره أكثر إقليمية من غرفة في منزل في مركز لتأهيل السجناء» (ص20). يبدو أن قوة الإقليم هي إحدى وظائف قوة السيطرة أو السلطة. (2-2) النظرية
صفحة غير معروفة