التعريف بكتاب محنة الإمام أحمد بن حنبل
الناشر
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
رقم الإصدار
السنة الثانية عشرة،العدد السابع والأربعون،والثامن والأربعون
سنة النشر
رجب - ذو الحجة ١٤٠٠هـ/١٩٨٠م
تصانيف
مدخل
...
التعريف بكتاب
محنة الإمام أحمد بن حنبل
للدكتور محمد نغش
أستاذ مساعد بكلية الشريعة بالجامعة
إن في ذكر محنة الإمام أحمد بن حنبل لعبرة للذين يتصدون للبدع والمبتدعين، تظهر مكانة الإمام أحمد بن حنبل في إعلاء كلمة الدين، وكيف حقق الله له ولأتباعه المخلصين النصر المبين، فحفظ بمنه وكرمه للسنة مكانتها وأعلى رايتها.
وكتاب محنة الإمام أحمد بن حنبل الذي وفقني الله إلى تحقيقه وضح فضل الإمام أحمد، وجهوده في الدفاع عن دين الله، وصبره على ما قاسى في محنته، ﵀ وجزته عن الإسلام خيرا، وإليك تلخيص وتعريف بهذا الكتاب، فيما يلي:
نبذة عن حياة الإمام أحمد بن حنبل: كان الإمام أحمد بن حنبل ﵀ خيار الناس، وأكرمهم نفسا، وأحسنهم عشرة وأدبا، كثير الإطراق والغض، معرضا عن القبيح واللغو، لا يسمع منه إلا المذاكرة للحديث وذكر الصالحين والزهاد، في وقار وسكون ولفظ حسن، وإذا لقيه إنسان بش به وأقبل عليه، وكان يتواضع للشيوخ تواضعا شديدا، وكانوا يكرمونه ويعظمونه، وكان قدوة عالية لأهل زمانه بعلمه وخلقه وورعه، وصبره وقوة احتماله، واستهانته بالأذى في سبيل الله. وكانت روح الجدة والسكينة هي التي تظل مجلسه؛ لأن ذلك هو الذي يتفق مع رواية السنة النبوية الشريفة، وآثار الرسول الكريم، وفتاوى السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، ومن شأن السكينة أن تجعل للقول مكانه من القلب ومنزلته، وإنه وإن كانت الدعابة تذهب بالملال، فإن كثرتها تذهب بالروعة ورواء العلم، وقد تجنب الإمام أحمد المزاح جملة؛ إذ إن رواية السنة عبادة عنده، ولا مزح في وقت العبادة، بل المزاح ينافيها.
نبذة عن حياة الإمام أحمد بن حنبل: كان الإمام أحمد بن حنبل ﵀ خيار الناس، وأكرمهم نفسا، وأحسنهم عشرة وأدبا، كثير الإطراق والغض، معرضا عن القبيح واللغو، لا يسمع منه إلا المذاكرة للحديث وذكر الصالحين والزهاد، في وقار وسكون ولفظ حسن، وإذا لقيه إنسان بش به وأقبل عليه، وكان يتواضع للشيوخ تواضعا شديدا، وكانوا يكرمونه ويعظمونه، وكان قدوة عالية لأهل زمانه بعلمه وخلقه وورعه، وصبره وقوة احتماله، واستهانته بالأذى في سبيل الله. وكانت روح الجدة والسكينة هي التي تظل مجلسه؛ لأن ذلك هو الذي يتفق مع رواية السنة النبوية الشريفة، وآثار الرسول الكريم، وفتاوى السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، ومن شأن السكينة أن تجعل للقول مكانه من القلب ومنزلته، وإنه وإن كانت الدعابة تذهب بالملال، فإن كثرتها تذهب بالروعة ورواء العلم، وقد تجنب الإمام أحمد المزاح جملة؛ إذ إن رواية السنة عبادة عنده، ولا مزح في وقت العبادة، بل المزاح ينافيها.
1 / 377
إن لنشأة الإمام أحمد أثرا بالغا في سلوكه، فهو من أصل كريم من ناحية أبيه وأمه، وقد كان لليتم فضل في صبره على أذى أعدائه؛ إذ قد حرم حنان الأب وعطفه، ونشأ يحمل المسؤولية من صغره، وورث الذكاء عن والده، الذي كان في مكانة مرموقة، وعن أمه الفاضلة.
وتكفي شهادات الناس له في مراحل حياته كافة بالفضل وإجماعهم على علو مكانته، ويجدر بنا أن نذكر بعضها؛ لأن المقام لا يتسع لحصرها.
والحلم من السمات التي تحلى بها نبينا ﷺ، وشاركه في هذه الصفة الحميدة الأنبياء والمرسلون ﵈، والحلم صفة لازمة للعلماء، الذين يقصدون وجه ربهم الكريم، وهذا أحمد بن حنبل يقول: "أحللت المعتصم من دمي"١، وكم من صنوف العذاب صب المعتصم على الإمام أحمد ﵁ وأرضاه، وقد أحبّ الناس الإمام أحمد وأرادوا أن يغدقوا عليه من أموالهم؛ لأنهم يعلمون فقره وحاجته، ويريدون أن يمدوا يد المعونة له ولأولاده، ولكنه يتعفف في أدب جم، فيرهن متاعه، ويأكل من عرق جبينه، ومن كسب يديه.
ونسوق على ذلك مثالا واحدا من أمثلة عديدة: "عرض عليه بعض التجار عشرة آلاف درهم ربحها من بضاعة، جعلها باسم -الإمام أحمد-؛ فأبى أن يقبلها وقال: نحن في كفاية وجزاك الله عن قصدك خيرا"٢.
وقد كان الإمام أحمد إماما في الزهد، ومن أقواله فيه: "أسر أيامي إلي يوم أصبح وليس عندي شيء) ٣، وقوله: (إنما هو طعام دون طعام ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل"٤.
وهكذا من يزهد في الدنيا، يجود بما ملكت يداه، فما بالك بهذا الإمام الذي باع نفسه ابتغاء مرضاة مولاه.
وقد ذكر المؤرخون عن جوده وكرمه الكثير، ونضرب لذلك مثلا، قال هارون المستملي: "لقيت أحمد فقلت: ما عندنا شيء!، فأعطاني خمسة دراهم، وقال: ما عندنا غيرها"٥.
وقيل إن الشافعي قال له: ألا تقبل قضاء اليمن؟ فامتنع من ذلك امتناعا شديدا
_________
١ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص ٢٢١.
٢ البداية والنهاية لابن كثير ج ١٠ ص ٣٢٠.
٣ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص ٢٤٨.
٤ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص.٢٤٨.
٥ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص٤٠.
1 / 378
وقال للشافعي: "إني إنما أختلف إليك لأجل العلم والزهد في الدنيا، فتأمرني أن ألي القضاء، ولولا العلم لما أكلمك بعد اليوم، فاستحى الشافعي منه"١.
والأمثلة على ورعه كثيرة، نحو قول أبي عبد الله السمسار: "كانت لأم عبد الله بن أحمد دار معنا في الدرب، يأخذ منها أحمد درهما بحق ميراثه، فاحتاجت إلى نفقة لتصلحها فأصلحها ابنه عبد الله؛ فترك أبو عبد الله الدرهم الذي كان يأخذه، وقال: قد أفسده علي، قلت: إنما تورع من أخذ حقه من الأجرة؛ خشية أن يكون ابنه أنفق على الدار مما يصل إليه من مال الخليفة٢.
إن الإمام أحمد لم يذق طعاما من حاكم تنَزّها عنه، وكان يتصدق بخلع المتوكل ولا يقبل أن يلبسها على جسده، وأبى أن يسكن في قصر يبنيه له، وأوصى أن يكفن في ملابسه؛ خشية أن يقبل أولاده من أحد كفنا له.
ولم يكن ورعه قاصرا على مأكله وملبسه ومسكنه، بل شمل علمه الذي كان يتقنه، وهو درايته بالحديث وإجادة حفظه، فهذا علي بن المديني يقول: (ليس في أصحابنا أحفظ من أحمد بن حنبل، وبلغني أنه لا يحدث إلا من كتاب، ولنا فيه أسوة"٣.
وهذا ابن الحربي يقول: "لزمت أحمد بن حنبل سنتين، فكان إذا خرج يحدثنا يخرج معه محبرة مجلدة بجلد أحمر وقلما، فإذا مر به سقط أو خطأ في كتابه أصلحه بقلمه من محبرته، يتورع أن يأخذ من محبرة أحدنا شيئا، وكنا نقول لأحمد في الشيء يحفظه، فيقول: لا، إلا من كتاب"٤.
وشهد له الناس بالتواضع، فهو لا يتقدم الناس في الخروج من المسجد، بل يجعلهم يتقدمونه، وهو لا يفتخر بحسبه ولا نسبه ولا بعلمه وفضله، وكان يسأل الله دائما أن يجعله خيرا مما يظنون ويغفر له ما لا يعلمون.
يقول فيه يحيى بن معين: "ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا مما كان فيه من الصلاح والخير"٥.
وكان يؤثر العزلة والوحدة، هروبا من الشهرة، وتحصيلا للمعرفة، وتجنبا للقيل والقال، فهو يرى الخلوة أروح لقلبه؛ تذكره بربه، ولكنه كان لا يتخلى عن واجب اجتماعي
_________
١ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص١٠٧.
٢ طبقات الحنابلة للقاضي ابن أبي يعلى ج ١ ص ١٠..
٣ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص٢٦٠.
٤ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص٢٢٦.
٥ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص٢٧٤.
1 / 379
أو حضوره صلاة جماعة، وقد رآه الناس حين تحدى الحاكمين، وصبر على إيذائهم ليعلي كلمة الحق والدين.
وانعقد إجماع أهل الأقطار الإسلامية المتنائية على أنه رجل صالح، وتسايرت الركبان بذكر صلاحه، وتقواه وورعه وقوة إيمانه وزهده، وإذا كان الإجماع حجة فقد قامت الحجة على صلاح الإمام أحمد بن حنبل١.
ومما قيل فيه من شعر قول الإمام الشافعي ﵁:
أضحى ابن حنبل حجة ... وبحب أحمد يُعرف المُتَنسك٢
ومن ذلك ما قال أبو محمد جعفر بن الحسن السراج البغدادي فيه:
دعَوْه إلى خَلق القرآن كما دَعوا ... سواه فلم يسمع ولم يتأول
ولا ردّه ضربُ السياط وسجنُه ... عن السنة الغراء والمذهب الجلي
لقد عاش في الدنيا حميدا موفقا ... وصار إلى الأخرى إلى خير منزل
وإني لأرجو أن يكون شفيع مَن ... تولاه من شيخ ومن متكهل
ومن حَدث قد نوّر الله قلبَه ... إذا سألوا عن أصله قال: حنبلي٣
هذه هي السيرة العطرة للإمام أحمد بن حنبل أحد الأئمة الأربعة، رضوان الله عليهم وسلامه عليهم أجمعين، إنه قد وضع روحه على كفه ليقدمها في سبيل ربه، لم يساوره الخوف لحظة من مخلوق مهما كانت لديه من قوة، إنه يدافع من أجل أن ينتصر الحق ويزهق الباطل.
فقد قدم الإمام أحمد كل ما يملك ليرد البدع والخرافات عن الدين الإسلامي الحنيف، صبر وصابر حتى لقي ربه.
أعز الله به دينه، فما نراه اليوم من تمسك بالكتاب والسنة أثر من آثاره الخالدة، فهنيئا له برضوان الواحد الديان وبرفقته لنبيه الكريم خير الأنام محمد بن عبد الله ﵊.
مؤلفاته: صنف (المسند) وهو ثلاثون ألف حديث، وكان ابتداؤه فيه سنة ثمانين ومائة، وكان يقول لابنه عبد الله: احتفظ بهذا المسند؛ فإنه سيكون للناس إماما٤، وقد اشتهر من _________ ١ أحمد بن حنبل لأبي زهرة ص ٥. ٢ المنهج الأحمد لأبي اليمن العليمي ج ١ ص ٥٣. ٣ المنهج الأحمد لأبي اليمن العليمي ج ١ ص ٥٠، ٥١. ٤ المنهج الأحمد لأبي اليمن العليمي ج ١ ص ١٩.
مؤلفاته: صنف (المسند) وهو ثلاثون ألف حديث، وكان ابتداؤه فيه سنة ثمانين ومائة، وكان يقول لابنه عبد الله: احتفظ بهذا المسند؛ فإنه سيكون للناس إماما٤، وقد اشتهر من _________ ١ أحمد بن حنبل لأبي زهرة ص ٥. ٢ المنهج الأحمد لأبي اليمن العليمي ج ١ ص ٥٣. ٣ المنهج الأحمد لأبي اليمن العليمي ج ١ ص ٥٠، ٥١. ٤ المنهج الأحمد لأبي اليمن العليمي ج ١ ص ١٩.
1 / 380
مؤلفات أحمد بن حنبل بنوع خاص كتابه المسند: وهو كتاب جامع في الأحاديث.
ونشر له غير المسند: (كتاب الصلاة وما يلزم فيها) .
ويذكرون له (كتاب طاعة الرسول)، الذي بين فيه ما ينبغي اتباعه عندما يبدو الحديث متعارضا مع بعض آيات القرآن، ولقد قرر ابن حنبل عقائده في مصنفه (كتاب السنة) .
وله كتب تبين وجهة نظره الفقهية نذكر منها على سبيل المثال (مسائل صالح)، وهي المسائل التي وجهها إليه ابنه صالح، وكذلك أجوبته على مسائل تلميذه حرب١، وقد بلغت فتاواه التي استطاع ابن القيم أن يرجع إليها نحو عشرين مجلدا٢.
تلاميذه: روى عنه أقرانه علي بن المديني ويحيى بن معين ودحيم الشامي وغيرهم٣، وروى عنه عبد الرزاق بن همام ويحيى بن آدم وأبو الوليد هاشم بن عبد الملك الطيالسي، وأبو عبد الله محمد بن إدريس الشاقعي، والأسود بن عامر شاذان، والبخاري ومسلم، وأبو داود، وأكثر عنه في السنن، وروى الترمذي عن أحمد بن الحسن الترمذي عنه، وروى النسائي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل وعن ابن عبد الله، وروى ابن ماجه عن محمد بن يحيى الذهلي عنه، وإبراهيم الحربي الأثرم، وأبو بكر أحمد الدارمي، وعمر بن سعيد الدارمي، ومحمد بن يحي الذهلي النيسابوري وخلق لا يحصون٤.
وفاته: توفي الإمام أحمد بن حنبل - رحمة الله عليه - ضحوة نهار الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول٥، وقيل: بل لثلاث عشرة ليلة بقيت من الشهر المذكور، وقيل: من ربيع الآخر٦، سنة إحدى وأربعين ومائتين للهجرة٧، ٣١ تموز ٨٥٥ للميلاد٨، فكانت سنه سبعا وسبعين سنة عند وفاته، ودفن في مقابر الشهداء في حي الحربية ببغداد٩. _________ ١ الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن قيم الجوزية ص ٢٥١، ٢٩٣ وما بعدها. ٢ هداية الحيارى ص ١٢١. ٣ طبقات الشافعية الكبرى ج ١ ص ١٩٩. ٤ شذرات الذهب لأبي الفلاح ج ٢ ص ٩٧. ٥ وفيات الأعيان ج ١ ص ٤٨، وطبقات الشافعية الكبرى ج ١ ص ٢٠٣، وتهذيب الأسماء واللغات ج ١ ص ١١٢، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٣٢٦ ومصادر أخرى. ٦ وفيات الأعيان ج ١ ص ٤٨، وتاريخ بغداد ج ٤ ص ٤٢٢. ٧ لم تختلف المصادر في سنة الوفاة. ٨ دائرة المعارف الإسلامية ج ١ ص ٤٩٢. ٩ دائرة المعارف الإسلامية ج ١ ص ٤٩٢.
تلاميذه: روى عنه أقرانه علي بن المديني ويحيى بن معين ودحيم الشامي وغيرهم٣، وروى عنه عبد الرزاق بن همام ويحيى بن آدم وأبو الوليد هاشم بن عبد الملك الطيالسي، وأبو عبد الله محمد بن إدريس الشاقعي، والأسود بن عامر شاذان، والبخاري ومسلم، وأبو داود، وأكثر عنه في السنن، وروى الترمذي عن أحمد بن الحسن الترمذي عنه، وروى النسائي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل وعن ابن عبد الله، وروى ابن ماجه عن محمد بن يحيى الذهلي عنه، وإبراهيم الحربي الأثرم، وأبو بكر أحمد الدارمي، وعمر بن سعيد الدارمي، ومحمد بن يحي الذهلي النيسابوري وخلق لا يحصون٤.
وفاته: توفي الإمام أحمد بن حنبل - رحمة الله عليه - ضحوة نهار الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول٥، وقيل: بل لثلاث عشرة ليلة بقيت من الشهر المذكور، وقيل: من ربيع الآخر٦، سنة إحدى وأربعين ومائتين للهجرة٧، ٣١ تموز ٨٥٥ للميلاد٨، فكانت سنه سبعا وسبعين سنة عند وفاته، ودفن في مقابر الشهداء في حي الحربية ببغداد٩. _________ ١ الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن قيم الجوزية ص ٢٥١، ٢٩٣ وما بعدها. ٢ هداية الحيارى ص ١٢١. ٣ طبقات الشافعية الكبرى ج ١ ص ١٩٩. ٤ شذرات الذهب لأبي الفلاح ج ٢ ص ٩٧. ٥ وفيات الأعيان ج ١ ص ٤٨، وطبقات الشافعية الكبرى ج ١ ص ٢٠٣، وتهذيب الأسماء واللغات ج ١ ص ١١٢، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٣٢٦ ومصادر أخرى. ٦ وفيات الأعيان ج ١ ص ٤٨، وتاريخ بغداد ج ٤ ص ٤٢٢. ٧ لم تختلف المصادر في سنة الوفاة. ٨ دائرة المعارف الإسلامية ج ١ ص ٤٩٢. ٩ دائرة المعارف الإسلامية ج ١ ص ٤٩٢.
1 / 381
وقيل: أسلم يوم مات أحمد بن حنبل عشرة آلاف من اليهود والنصارى والمجوس.
قال الوركاني: يوم مات أحمد بن حنبل وقع المأتم والنوح في أربعة أصناف من الناس: المسلمين، واليهود، والنصارى، والمجوس١.
أولاده: كان له ولدان عالمان هما: صالح، وعبد الله. فأما صالح فتوفي في شهر رمضان سنة ست وستين ومائتين، وكان قاضي أصفهان فمات بها. وأما عبد الله فإنه بقي إلى سنة تسعين ومائتين، وتوفي يوم الأحد لثمان بقين من جمادى الأولى، وقيل: الآخرة، وله سبع وسبعون سنة، وكنيته أبو عبد الرحمن، وبه يكنى الإمام أحمد، ﵏ أجمعين٢.
محنة الإمام أحمد بن حنبل: بداية المحنة في عهد المأمون: استطاع الإمام أحمد بن حنبل، بإيمانه الصادق وصلابته في لحق، أن يهزم المعتزلة الذين ادعوا فيما ادعوا خلق القرآن، واتخذوا الخليفة المأمون أبا جعفر عبد الله بن هارون الرشيد أداة لنشر بدعتهم وترويج ضلالهم؛ فقد زينوا له طريق الباطل، وحسنوا له قبيح القول بخلق القرآن، فصار إلى مقالتهم، وكانت ولاية المأمون في المحرم، وقيل في رجب سنة ١٩٨ للهجرة. وقدر أنه في آخر عمره خرج من بغداد لغزو بلاد الروم فعَنّ له أن يكتب إلى إسحاق بن مصعب صاحب الشرطة أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن، فاستدعى جماعة من العلماء والقضاة وأئمة الحديث، ودعاهم إلى ذلك، ولكنهم امتنعوا، فاشتد غضبه٣.
الإمام أحمد مكبلا في الأغلال: ولما استعصى على المأمون وأذنابه التأثير على الإمام أحمد بن حنبل في ميدان الحجة والإقناع، أمر بإشخاصه مكبلا في الأغلال، هو ورفيقه في المحنة محمد بن نوح ﵄ وتوفي محمد بن نوح وهو في طريقه إلى المأمون، وصلى عليه الإمام أحمد بن حنبل _________ ١ حلية الأولياء للحافظ الأصفهاني ج ٩ ص ١٨٠. ٢ وفيات الأعيان لابن خلكان ج ١ ص ٤٩. ٣ المنهج الأحمد لأبي اليمن العليمي ج ١ ص ٣١.
أولاده: كان له ولدان عالمان هما: صالح، وعبد الله. فأما صالح فتوفي في شهر رمضان سنة ست وستين ومائتين، وكان قاضي أصفهان فمات بها. وأما عبد الله فإنه بقي إلى سنة تسعين ومائتين، وتوفي يوم الأحد لثمان بقين من جمادى الأولى، وقيل: الآخرة، وله سبع وسبعون سنة، وكنيته أبو عبد الرحمن، وبه يكنى الإمام أحمد، ﵏ أجمعين٢.
محنة الإمام أحمد بن حنبل: بداية المحنة في عهد المأمون: استطاع الإمام أحمد بن حنبل، بإيمانه الصادق وصلابته في لحق، أن يهزم المعتزلة الذين ادعوا فيما ادعوا خلق القرآن، واتخذوا الخليفة المأمون أبا جعفر عبد الله بن هارون الرشيد أداة لنشر بدعتهم وترويج ضلالهم؛ فقد زينوا له طريق الباطل، وحسنوا له قبيح القول بخلق القرآن، فصار إلى مقالتهم، وكانت ولاية المأمون في المحرم، وقيل في رجب سنة ١٩٨ للهجرة. وقدر أنه في آخر عمره خرج من بغداد لغزو بلاد الروم فعَنّ له أن يكتب إلى إسحاق بن مصعب صاحب الشرطة أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن، فاستدعى جماعة من العلماء والقضاة وأئمة الحديث، ودعاهم إلى ذلك، ولكنهم امتنعوا، فاشتد غضبه٣.
الإمام أحمد مكبلا في الأغلال: ولما استعصى على المأمون وأذنابه التأثير على الإمام أحمد بن حنبل في ميدان الحجة والإقناع، أمر بإشخاصه مكبلا في الأغلال، هو ورفيقه في المحنة محمد بن نوح ﵄ وتوفي محمد بن نوح وهو في طريقه إلى المأمون، وصلى عليه الإمام أحمد بن حنبل _________ ١ حلية الأولياء للحافظ الأصفهاني ج ٩ ص ١٨٠. ٢ وفيات الأعيان لابن خلكان ج ١ ص ٤٩. ٣ المنهج الأحمد لأبي اليمن العليمي ج ١ ص ٣١.
1 / 382
الذي بقي وحده، والخليفة يتوعده بالتعذيب والقتل إن لم يجبه إلى القول بخلق القرآن، فتوجه الإمام أحمد بالدعاء إلى الله تعالى أن لا يجمع بينه وبينه؛ فبينما هو في الطريق قبل وصوله إليه إذ جاءهم الصريخ بموت المأمون، وكان موته في شهر رجب سنة ثماني عشرة ومائتين، فرد الإمام أحمد إلى بغداد وحبس هناك.
الترغيب والترهيب والتعذيب في عهد المعتصم: ثم ولي الخلافة المعتصم، وهو أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد، الذي قدم من بلاد الروم، فدخل بغداد في مستهل شهر رمضان سنة ثماني عشرة ومائتين، فامتحن الإمام أحمد وضرب بين يديه١، ويقف الإمام أحمد بين يدي الخليفة المعتصم ثابت الجنان قوي الإيمان، وقد ازدحم الناس ليشاهدوا مشهدا رهيبا؛ فهذا الخليفة وحوله جنوده، وهذا أحمد في قيوده، الأول سلاحه البطش والجبروت، والثاني سلاحه القرآن والسنة يستعذب العذاب في سبيل الله، ويسأله وحده العفو والمغفرة، ويرجوه رضاه ورضوانه يجلس الخليفة على كرسيه، ويقف الإمام أحمد بين يديه والسيوف قد جردت، والرماح قد ركزت، والأتراس قد نصبت، والسياط قد طرحت، يريدون إرهابه وهو قد باع نفسه ربه، وبكل ما يصنعون وأكثر لا يأبه. يرد على الخليفة بالبرهان الساطع والدليل القاطع، ويعجز الخليفة في ترغيبه أو ترهيبه ليقول بكلام المعتزلة (القرآن مخلوق)، ويحضر المعتصم له الفقهاء والقضاة فيناظرونه بحضرته ثلاثة أيام، وهو يناظرهم ويقهرهم، فيقول ابن أبي دؤاد وبشر المريسي للخليفة: اقتله حتى نستريح منه. ولكن المعتصم يقيم مباراة بين الجلادين لقتله بالسياط الموجعة، ويحدثونه في الرجوع عن إصراره، ولكنه يقول لهم في صلابة: أعطوني شيئا من كتاب الله وسنة رسوله أقول به. ويستمر الضرب وتزداد شدته، حتى يقع الإمام أحمد ﵀ على الأرض في غيبوبة، لا يدري ما يفعلون به. وعندما عادت لأحمد ذاكرته، تقدم إليه ابن أبي دؤاد، وقال له: يا أحمد قل في أذني القرآن مخلوق حتى أخلصك من يد الخليفة؛ فقال له الإمام أحمد: يا بن أبي دؤاد قل _________ ١ المنهج الأحمد لأبي اليمن العليمي ج ١ ص ٣٢.
الترغيب والترهيب والتعذيب في عهد المعتصم: ثم ولي الخلافة المعتصم، وهو أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد، الذي قدم من بلاد الروم، فدخل بغداد في مستهل شهر رمضان سنة ثماني عشرة ومائتين، فامتحن الإمام أحمد وضرب بين يديه١، ويقف الإمام أحمد بين يدي الخليفة المعتصم ثابت الجنان قوي الإيمان، وقد ازدحم الناس ليشاهدوا مشهدا رهيبا؛ فهذا الخليفة وحوله جنوده، وهذا أحمد في قيوده، الأول سلاحه البطش والجبروت، والثاني سلاحه القرآن والسنة يستعذب العذاب في سبيل الله، ويسأله وحده العفو والمغفرة، ويرجوه رضاه ورضوانه يجلس الخليفة على كرسيه، ويقف الإمام أحمد بين يديه والسيوف قد جردت، والرماح قد ركزت، والأتراس قد نصبت، والسياط قد طرحت، يريدون إرهابه وهو قد باع نفسه ربه، وبكل ما يصنعون وأكثر لا يأبه. يرد على الخليفة بالبرهان الساطع والدليل القاطع، ويعجز الخليفة في ترغيبه أو ترهيبه ليقول بكلام المعتزلة (القرآن مخلوق)، ويحضر المعتصم له الفقهاء والقضاة فيناظرونه بحضرته ثلاثة أيام، وهو يناظرهم ويقهرهم، فيقول ابن أبي دؤاد وبشر المريسي للخليفة: اقتله حتى نستريح منه. ولكن المعتصم يقيم مباراة بين الجلادين لقتله بالسياط الموجعة، ويحدثونه في الرجوع عن إصراره، ولكنه يقول لهم في صلابة: أعطوني شيئا من كتاب الله وسنة رسوله أقول به. ويستمر الضرب وتزداد شدته، حتى يقع الإمام أحمد ﵀ على الأرض في غيبوبة، لا يدري ما يفعلون به. وعندما عادت لأحمد ذاكرته، تقدم إليه ابن أبي دؤاد، وقال له: يا أحمد قل في أذني القرآن مخلوق حتى أخلصك من يد الخليفة؛ فقال له الإمام أحمد: يا بن أبي دؤاد قل _________ ١ المنهج الأحمد لأبي اليمن العليمي ج ١ ص ٣٢.
1 / 383
في أذني القرآن كلام الله وليس بمخلوق حتى أخلصك من عذاب الله ﷿، فقال المعتصم: أدخلوه إلى الحبس، فحمل إلى الحبس وانصرف الناس١.
وهكذا واجه الإمام أحمد بن حنبل المحنة في صبر جميل وشجاعة نادرة، يقول أحد جلاديه: "ضربت أحمد بن حنبل ثمانين سوطا لو ضربته فيلا لهدمته"٢.
والراجح أن المحنة كانت في سنة تسع عشرة ومائتين؛ من واقع ما جاء في هذا الكتاب الذي يرويه ابن عمه، وفي كتاب النجوم الزاهرة٣.
وذهب العليمي إلى احتمال أن تكون المحنة في سنة تسع عشرة٤، بخلاف مما ذكره ابن خلكان من أن ضربه في العشر الأخير من رمضان سنة عشرين ومائتين٥.
وكانت مدة حبس الإمام ثلاثين شهرا، منذ بداية المحنة في عهد المأمون إلى أن خرج من السجن في شهر رمضان سنة عشرين ومائتين.
وقد رأى الإمام أحمد ﵀ أن الأخذ بالتقية في دار الإسلام لا يصح؛ لأن المنكر في دار الإسلام يجب استنكاره وإلا تحولت صفتها ولم يعد لها اسم، وأن الاستنكار له مراتب، والتقية تكون حيث لا يكون للإسلام قوة وسلطانا كبلاد يضطهد الإسلام فيها، ولا سبيل للمسلم في الخروج منها فيستخفي بدينه، وتلك رخصة رخصت له تيسيرا وتسهيلا، وكل نفس وما تطيق.
ولأن التقية لا تجوز من الأئمة الذين يقتدى بهم ويهتدى بهديهم، حتى لا يضل الناس؛ لأنهم إن نطقوا بغير ما يعتقدون وليس للناس علم ما في الصدر، اتبعوهم في مظهرهم، وظنوا أنه الحق الذي ارتضوه دينا، وبذلك يكون الفساد عاما ولا يخص، وحق على الإمام أن يكون الممتحن المبتلى، فتنشر الفكرة السليمة ويكون الابتلاء سبيل نشرها وذيوعها٦، وينتصر الدين بصاحب العقيدة القوية، ويتحمله في سبيل نصرة دين الله على كل بلية، وترفع راية الإسلام عالية ويندحر أصحاب البدعة والضلالة.
ويصفح الإمام أحمد رضوان الله عليه عن المعتصم، راجيا غفران ربه، وحسن ثوابه،
_________
١ المنهج الأحمد لأبي اليمن العليمي ج ١ ص ٣٥.
٢ المنهج الأحمد لأبي اليمن العليمي ج ١ ص ٣٦.
٣ ابن تغري بردي ج ٢ ص ٢٣٠.
٤ المنهج الأحمد ج ١ ص ٣٧.
٥ وفيات الأعيان ج ١ ص ٤٨.
٦ أحمد بن حنبل لبي زهرة ص ٦٧.
1 / 384
مستجيبا لأوامره؛ ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ ١، ولقوله ﷿: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ ٢.
تحديد إقامة الإمام أحمد في عهد الواثق: وتولى الواثق الحكم بعد المعتصم في ربيع الأول سبع وعشرين ومائتين ولم يتعرض للإمام، وقد رأى أن التعذيب لا يفيد فيمن كانت إرادته كالحديد، وعرف فيه أنه عن الحق لا ولن يحيد، ورأى أتباعه في مزيد، ولكنه كتب إلى محمد بن أبي الليث بامتحان الناس أجمعين، فلم يبق أحد فقيه ومحدث ولا مؤذن ولا معلم حتى أخذ بالمحنة، فهرب كثير من الناس وملئت السجون بمن أنكر المحنة، وأمر ابن أبي الليث أن يكتب على المساجد "لا إله إلا الله رب القرآن المخلوق"، فكتب ذلك على المساجد بفسطاط مصر، ومنع الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي من الجلوس في المساجد٣. وبعث إلى الإمام أحمد يحدد إقامته: "لا تساكني بأرض"، وقيل: أمره أن يخرج من بيته، ويظل الإمام أحمد متخفيا حتى مات الواثق، ووقاه الله شره، وأراه سبحانه ثمرة جهاده وصبره، فكرمه وأعلى ذكره، وخسف بأعدائه، وأذلهم وكان في ذلك عبرة.
انتصار أهل السنة واندحار أهل البدعة: ففي عهد المتوكل بعد الواثق - وهو أبو الفضل جعفر بن المعتصم، وكانت ولايته في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين - خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقاد، وطعن عليهم فيما كانوا يقولونه من خلق القرآن، ونهى عن الجدال والمناظرة في الآراء وعاقب عليهما، وأمر بإظهار الرواية للحديث فأظهر الله به السنة، وأمات به البدعة، وكشف عن الخلق تلك الغمة، وأنار به تلك الظلمة، وأطلق من كان قد اعتقل بسبب القول بخلق القرآن، ورفع المحنة عن الناس فاستبشر الناس بولايته، وأمر بالقبض على محمد بن عبد الملك الزيات الوزير، ووضعه في تنور إلى أن مات، وذلك في سنة ثلاث ومائتين، وابتلى الله أحمد بن أبي دؤاد بالفالج بعد موت الوزير بسبعة وأربعين يوما، فولي القضاء مكانه ولده أبو الوليد محمد، فلم تكن طريقته مرضية، وكثر ذاموه، وقل شاكروه، ثم _________ ١ سورة النور الآية ٢٢. ٢ سورة الشورى الآية ٤٠. ٣ ضحى الإسلام لأحمد أمين ج ٣ ص ١٨٤.
تحديد إقامة الإمام أحمد في عهد الواثق: وتولى الواثق الحكم بعد المعتصم في ربيع الأول سبع وعشرين ومائتين ولم يتعرض للإمام، وقد رأى أن التعذيب لا يفيد فيمن كانت إرادته كالحديد، وعرف فيه أنه عن الحق لا ولن يحيد، ورأى أتباعه في مزيد، ولكنه كتب إلى محمد بن أبي الليث بامتحان الناس أجمعين، فلم يبق أحد فقيه ومحدث ولا مؤذن ولا معلم حتى أخذ بالمحنة، فهرب كثير من الناس وملئت السجون بمن أنكر المحنة، وأمر ابن أبي الليث أن يكتب على المساجد "لا إله إلا الله رب القرآن المخلوق"، فكتب ذلك على المساجد بفسطاط مصر، ومنع الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي من الجلوس في المساجد٣. وبعث إلى الإمام أحمد يحدد إقامته: "لا تساكني بأرض"، وقيل: أمره أن يخرج من بيته، ويظل الإمام أحمد متخفيا حتى مات الواثق، ووقاه الله شره، وأراه سبحانه ثمرة جهاده وصبره، فكرمه وأعلى ذكره، وخسف بأعدائه، وأذلهم وكان في ذلك عبرة.
انتصار أهل السنة واندحار أهل البدعة: ففي عهد المتوكل بعد الواثق - وهو أبو الفضل جعفر بن المعتصم، وكانت ولايته في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين - خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقاد، وطعن عليهم فيما كانوا يقولونه من خلق القرآن، ونهى عن الجدال والمناظرة في الآراء وعاقب عليهما، وأمر بإظهار الرواية للحديث فأظهر الله به السنة، وأمات به البدعة، وكشف عن الخلق تلك الغمة، وأنار به تلك الظلمة، وأطلق من كان قد اعتقل بسبب القول بخلق القرآن، ورفع المحنة عن الناس فاستبشر الناس بولايته، وأمر بالقبض على محمد بن عبد الملك الزيات الوزير، ووضعه في تنور إلى أن مات، وذلك في سنة ثلاث ومائتين، وابتلى الله أحمد بن أبي دؤاد بالفالج بعد موت الوزير بسبعة وأربعين يوما، فولي القضاء مكانه ولده أبو الوليد محمد، فلم تكن طريقته مرضية، وكثر ذاموه، وقل شاكروه، ثم _________ ١ سورة النور الآية ٢٢. ٢ سورة الشورى الآية ٤٠. ٣ ضحى الإسلام لأحمد أمين ج ٣ ص ١٨٤.
1 / 385
سخط المتوكل على أحمد بن دؤاد ووله محمد في سنة تسع وثلاثين ومائتين، وأخذ جميع ضياع الأب وأمواله من الولد؛ مائة وعشرين ألف دينار وجوهرا بأربعين ألف دينار، وسيره من بغداد من (سر من رأى)، وولى القضاء يحيى بن أكثم قاضي القضاة، فإنه كان من أئمة الدين وعلماء السنة، ثم مات أحمد بن أبي دؤاد بمرض الفالج في المحرم سنة أربعين ومائتين، ومات ولده محمد قبله بعشرين يوما، وكان بشر المريسي قد أهلكه الله ومات في ذي الحجة سنة ثماني عشرة، وقيل: تسع عشرة ومائتين.
وعن عمران بن موسى قال: دخلت على أبي العروق الجلاد الذي ضرب أحمد لأنظر إليه؛ فمكث خمسة وأربعين يوما ينبح كما ينبح الكلب١.
وقد أقبلت الدنيا على الإمام أحمد وهو زاهد فيها، لا يريد منصبا ولا جاها، ولا يريد طعاما فاخرا، أو خلعة سنية، أو مسكنا شاهقا في الدنيا الدنية، وهو يريد أخرى فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لا يريد بعد صبره الطويل في محتنه أن يبيع الآجلة بالعاجلة؛ إنه يرفض عطايا السلطان حتى لا يوجده عليه، ولكنه يتصدق بها، ويأتيه طعام الخليفة المتوكل الخاص فلا يأكل منه لقمة، رغم فقره المدقع، ولكن الغني غنى النفس؛ فيا لها من نفس أبية غنية!.
وعظمت مكانة الإمام أحمد لدى الخليفة المتوكل؛ فكان لا يولي أحدا إلا بمشورته، "ومكث الإمام إلى حين وفاته قل أن يأتي يوم إلا ورسالة الخليفة تنفذ إليه في أمور يشاوره فيها ويستشيره، رحمهما الله ورضي عنهما"٢.
وهكذا خرج من الاختبار رجلا صالحا، وقد تنوعت طرائق الاختبار، اختبره المأمون بالقيد، فساقه إليه مقيدا مغلولا يثقله الحديد مع بعد الشقة وعظم المشقة، واختبره المعتصم بالحبس والضرب، واختبره الواثق بالمنع والتضييق، فما نهنهوا من نفسه وما يعتقد، وبعد تلك البلايا ابتلي بالبلاء الأكبر، فساق إليه المتوكل بالنعم، فردها وهو عيوف النفس، وكان يشد على بطنه من الجوع، ولا يتناول مما يشك في حله أو يتورع منه، ثم ابتلي أحمد بعد كل هذا بأعظم بلاء ينزل بالنفس البشرية، وهو إعجاب الناس؛ فقد ابتلي بعد أن انتصر على كل الرزايا بإعجاب الناس، فما أورثه ذلك عجبا ولا ولاه بغرور، بل كان المؤمن المحتسب المتواضع لعزة الله وجلاله الذي لم يأخذه الثناء، وبذلك نجح في أعظم البلاء٣.
_________
١ المنهج الأحمد لأبي اليمن العليمي ج ١ ص ٣٩، ٤٠.
٢ المنهج الأحمد لأبي اليمن العليمي ج ١ ص ٤١
٣ أحمد بن حنبل لأبي زهرة ص ٥، ٦.
1 / 386
وتعالت سلطة المحدثين وعلى رأسهم الحنابلة، وقوي نفوذهم حتى كانوا حكومة داخل الحكومة١، حتى أنه في سنة ٣٢٣؟ "عظم أمر الحنابلة ببغداد وقويت شوكتهم، وصاروا يكبسون دور القواد والعوام، وإن وجدوا نبيذا أراقوه، وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء فأرهبوا بغداد"٢.
مشهدان من محنة الإمام أحمد بن حنبل: الأول: مشهد من دفاعه عن الكتاب والسنة: قال لي عبد الرحمن: ما تقول في القرآن؟ فقال لي أبو إسحاق فقلت له: ما تقول في العلم؟ فسكت، فقلت لعبد الرحمن القزاز: (القرآن) من علم الله، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله، قال: فسكت عبد الرحمن، فلم يردّ عليّ شيئا، فقالوا بينهم: يا أمير المؤمنين، أكفرنا وأكفرك، فلم يلتفت إليهم. قال أبو عبد الله: فقال لي عبد الرحمن: كان الله ولا قرآن، قلت له: فكان الله ولا علم؟ فأمسك، ولو زعم أن الله كان ولا علم لكفر بالله، ثم قال أبو عبد الله: لم يزل الله علما متكلما، نعبد الله لصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف به نفسه، ونرد القرآن إلى عالمه يبارك وتعالى، إلى الله فهو أعلم به، منه بدأ وإليه يعود. قال أبو عبد الله: وجعلوا يتكلمون من هاهنا ومن هاهنا، فأقول: يا أمير المؤمنين، ما أعطوني شيئا من كتاب الله، ولا سنة رسول الله ﷺ، فأقول به، قال: فقال ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا ما في كتاب الله أو سنة رسوله؟ فقلت: وهل يقوم الإسلام إلا بالكتاب والسنة؟ ثم قلت له: تأولت تأويلا تدعوا الناس إليه، فأنت أعلم وما تأولت، وتحبس عليه وتقتل عليه، فقال ابن أبي دؤاد: هو والله يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع، وهؤلاء قضاتك والفقهاء فسلهم، فقال لهم: ما تقولون؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، هو ضال مضل مبتدع، فلم يزالوا يكلموني، وجعل صوتي يعلو على أصواتهم إلى أن قال لي عبد _________ ١ ضحى الإسلام لأحمد أمين ج ٣ ص ٢٠٠.. ٢ كتاب أخبار سيبويه المصري ص ١٨.
مشهدان من محنة الإمام أحمد بن حنبل: الأول: مشهد من دفاعه عن الكتاب والسنة: قال لي عبد الرحمن: ما تقول في القرآن؟ فقال لي أبو إسحاق فقلت له: ما تقول في العلم؟ فسكت، فقلت لعبد الرحمن القزاز: (القرآن) من علم الله، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله، قال: فسكت عبد الرحمن، فلم يردّ عليّ شيئا، فقالوا بينهم: يا أمير المؤمنين، أكفرنا وأكفرك، فلم يلتفت إليهم. قال أبو عبد الله: فقال لي عبد الرحمن: كان الله ولا قرآن، قلت له: فكان الله ولا علم؟ فأمسك، ولو زعم أن الله كان ولا علم لكفر بالله، ثم قال أبو عبد الله: لم يزل الله علما متكلما، نعبد الله لصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف به نفسه، ونرد القرآن إلى عالمه يبارك وتعالى، إلى الله فهو أعلم به، منه بدأ وإليه يعود. قال أبو عبد الله: وجعلوا يتكلمون من هاهنا ومن هاهنا، فأقول: يا أمير المؤمنين، ما أعطوني شيئا من كتاب الله، ولا سنة رسول الله ﷺ، فأقول به، قال: فقال ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا ما في كتاب الله أو سنة رسوله؟ فقلت: وهل يقوم الإسلام إلا بالكتاب والسنة؟ ثم قلت له: تأولت تأويلا تدعوا الناس إليه، فأنت أعلم وما تأولت، وتحبس عليه وتقتل عليه، فقال ابن أبي دؤاد: هو والله يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع، وهؤلاء قضاتك والفقهاء فسلهم، فقال لهم: ما تقولون؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، هو ضال مضل مبتدع، فلم يزالوا يكلموني، وجعل صوتي يعلو على أصواتهم إلى أن قال لي عبد _________ ١ ضحى الإسلام لأحمد أمين ج ٣ ص ٢٠٠.. ٢ كتاب أخبار سيبويه المصري ص ١٨.
1 / 387
الرحمن بن إسحاق: قال الله ﷿ ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ﴾ ١ أفيكون محدثا إلا مخلوقا؟ فقلت له: قال الله ﷿ ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ ٢ فالذكر هو القرآن، وتلك ليس٣ فيها ألف ولام؟ قال: وكان ابن سماعة٤ لا يفهم ما أقول، فقال: ما يقول: قالوا: إنه يقول: كذا وكذا، وقال لي إنسان منهم: حديث خبّاب: يا هناه تقرب إلى الله بما استطعت فإنك لن تقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه٥، قلت: نعم، هو هكذا٦.
الثاني: مشهد جلده وتعذيبه:
قال الخليفة المعتصم: حدّوه اخلعوه، واسحبوه، قال: فأخذت ثم خلعت، ثم قال: العقابين٧ والأسياط، فجيء بعقابين وأسياط.
قال أبو عبد الله: وأنا أنظر، وكان معي شعر النبي [ﷺ] ٨ أعطانيه ابن الفضل بن الربيع، وكان في صرة من قميص، فقال: انزعوا عنه قميصه ولا تخرقوه، ثم قال: ما هذا في ثوبه؟ فقالوا لي: ما هذا في ثوبك؟ قلت: هذا شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسم، قال: صُيرت بين العقابين، فقلت: يا أمير المؤمنين، الله الله! إن رسول الله ﷺ قال: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث" وتلوت الحديث٩، وقال رسول الله ﷺ: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم" ١٠؛ فبم تستحل دمي ولم آت شيئا من هذا يا أمير المؤمنين؟ الله الله! لا يكفي الله وبيني وبينك مطالبة، يا أمير المؤمنين! اذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي بين يديك، يا أمير المؤمنين! راقب الله، فكأنه أمسك ولم يترك١١، فقال ابن أبي دؤاد
_________
١ سورة الأنبياء الآية ٢.
٢ سورة ص الآية ١.
٣ في الأصل: أليس.
٤ ابن سماعة: محمد بن سماعة بن عبيد الله هلال بن وكيع، كان إماما عالما صالحا بارعا، صاحب اختيارات وأقوال في المذاهب، وله المصنفات الحسان، ولي القضاء وتوفي سنة ٣٢٢؟. (النجوم الزاهرة ج ٢ ص ٧١) والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٣١٢) .
٥ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص ٣٢٢ن وبدلا من هناه هنتاه.
٦ ذكر محنة الإمام أحمد ص ٤٨، ٥٠.
٧ العقابين: خشبتان يُشبَح الرجل بينهما للجلد (لسان العرب) .
٨ ناقصة في الأصل: ﷺ.
٩ رواه الشيخان.
١٠ رواه الشيخان وأبو داود.
١١ لعل الصواب ما أثبتناه.
1 / 388
- وخاف أن يكون منه عطف أو رحمة -: يا أمير المؤمنين! إنه ضال مضل كافر بالله، قلت: يا أمير المؤمنين! اتق الله في دمي ونفسي، فقال: هذا كافر، وقال: هذا كافر، فأمرني حينئذ فأقمت بين العقابين، وجيء بكرسي فوضع له، فجلس عليه وابن أبي دؤاد وأصحابه قيام على رأسه، فقال لي إنسان: خذ الخشبتين بيدك وشد عليهما، فلم أفهم منه ذاك فتخلعت يداي، ثم قال أبو إسحاق للجلادين: أروني سياطكم، فنظر فقال: ائتوني بغيرها١، فأتوه بغيرها، ثم قال لهم: تقدموا، وقال لهم: ادنوا واحدا واحدا، ثم قال: أوجع؛ قطع الله يدك! فتقدم فضربني سوطين ثم تأخر، ثم قال لآخر: ادن، شد؛ قطع الله يدك! فضربني سوطين، ثم جاء آخر، فلم يزل كذلك فأغمي علي لما ضربني أسواطا، فلم أعقل حتى أرخى عني، فجاء فوقف وهم محدقون به، فقال: يا أحمد: ويلك تقتل نفسك، ويحك أجبني، أطلق عنك، وقال لي بعضهم: ويلك أمير المؤمنين قائم، ويلك إمامك على رأسك قائم، ويعجني عجيف بقائمة سيفه، فقال لي: يريد يغلب هؤلاء كلهم.
وجعل إسحاق بن إبراهيم يقول لي: ويلك الخليفة على رأسك قائم، وهذا يقول: يا أمير المؤمنين، دمه في عنقي، ثم يرجع فيجلس على الكرسي، ثم يقول للجلاد: ادنه، أوجع؛ قطع الله يدك! ولم (يزل يدعو) ٢ واحدا واحدا حتى يضربني سوطين سوطين، ويتنحى وهو يقول: (شدّ؛ قطع الله يدك!) ٣ أوجع! قال: ثم قام إليّ الثالثة، وما أعقل، فجعل يقول: يا أحمد أجبني، قال: وجعل عبد الرحمن يقول لي: أصحابك يحيى وفلان وفلان، أليس قد أجابوا؟ قال للجلاد: أوجع! وذهب عقلي، واسترخيت، فلما أحس أني ميت، كأنه أرعبه ذلك، فأمر بتخليتي حينئذ، وأنا على ذلك لا أعقل، فما عقلت إلا وأنا في حجرة مطلق الأقياد"٤.
وهكذا صور هذا الكتاب تلك البطولة الفذة في مواجهة الجيوش الخاسرة أبدع تصوير وأصدقه، صور الزبد والحق؛ ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ﴾ ٥، صور الجبروت والإيمان، صور سيف الحق، صور سجن الدار وحرية النفس، صور قيد الحديد
_________
١ في الأصل: فأتوه بغيرها.
٢ غير واضحة في الأصل.
٣ العبارة من كتاب طبقات الشافعية الكبرى للسبكي.
٤ ذكر محنة الإمام أحمد ص ٦١، ٦٣.
٥ سورة الرعد الآية ١٧.
1 / 389
وانطلاق القلب واللسان، صور أن دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، صور واجب العلماء في مواجهة المنكر.
فكان هذا الكتاب دليل الحيران في هذا الزمان، ومصباح الرشاد في بحر الظلمات، وكان نشره اليوم إسهاما في الدعوة إلى الله، ورسما للسلوك القويم، وما ينبغي أن يكون عليه الداعية من ثبات في العقيدة وقوة في الإيمان وصلابة في الحق"١.
_________
١ تصدير: د. موسى شاهين لاشين لكتاب ذكر محنة الإمام أحمد بن حنبل.
1 / 390