الأنتصار على علماء الأمصار - المجلد الأول حتى 197
الانتصار على الشافعي: قال: روي عن الرسول أنه قال: (( إنها ليست بنجس )). ولم يفصل بين أحوالها في حال افتراسها وعدم افتراسها، وفي هذا دلالة على كونها طاهرة في جميع حالاتها بتقرير الشارع وتصريحه من غير حاجة إلى التأويل.
قلنا: عما أوردوه جوابان:
أما أولا: فلأنه إنما قال ذلك لسبب، وهو أنه لما دعي إلى دار فيها كلب فلم يجب، ثم دعي إلى دار فيها هرة فأجاب فقيل له في ذلك، فقال: (( إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات)). يعني أنها ليست مثل الكلب في السبعية، ولم يرد نفي النجاسة عنها على جهة الإطلاق.
وأما ثانيا: فلأنه إنما أراد أنها ليست نجسة الذات وإنما هي طاهرة، ولأجل ما يعرض فيها من الطوفان، ولم يرد أنها إذا افترست لا ينجس فوها فبطل ما قاله.
قال الشافعي: قال الرسول : (( إنها من الطوافين عليكم والطوافات)). والغرض من ذلك أنها لما كانت البلوى تعظم بها بالمخالطة والطوفان، وأنه لا يمكن حجزها عن البيوت والحجرات والمساكن، فلأجل هذا حكم بطهارتها من أجل ذلك، ولم يفصل فيها بين حال وحال، وفي هذا دلالة على طهارتها.
قلنا: هذا فيه دلالة على ما قلناه من نجاستها؛ لكن الشرع عفا عن تلك النجاسة، لأجل عظم الخلطة بها وملابستها لها في كل حال من حالاتها، فلو استدللنا بهذا على ما يقوله من نجاستها لكنا أسعد حالا لما ذكرناه.
الفرع الرابع: وإذا قلنا بطهارتها بعد وقوع النجاسة، فهل تقدر طهارة فيها بمدة أو لا تقدر بمدة؟
ولا قائل بعدم المدة إلا من قال: إن فاها لا ينجس مطلقا، وهوالشافعي، وقد رددنا عليه، ولأن القول بطهارة فمها عقيب الافتراس لا وجه له لأمرين:
أما أولا: فلا بد من تفرقة بين حال الطهارة، وحالة النجاسة، ولا تفرقة إلا بعد مضي مدة بعد وقوع النجاسة في فمها.
وأما ثانيا: فكيف يقال: بأنه يطهر فوها من غير تقدير مدة؟ ولعل بعض أجزاء الفريسة في فمها وبين أنيابها فكيف يحكم بطهارته من غير مدة تمضي؟ هذا لا وجه له.
وإذا كان لا بد من مدة فكم تكون تلك المدة؟ فيه قولان:
أحدهما: أن تكون المدة ليلة، وهذا هو الذي ذكره المؤيد بالله في كتاب (الزيادات).
ووجهه: هو أن الليلة زمان سكون ودعة واستراحة، ولعابها لا يزال جاريا في هذه المدة، فلهذا كان موجبا لطهارته.
وثانيهما: أن تلك المدة تكون يوما وليلة، وهذا هو الذي ذكره القاضي أبو مضر، تحصيلا لمذهبه(¬1).
ووجهه: أنها في اليوم والليلة لا تصبر عن الماء فيهما أصلا، فإذا شربت أزال الماء تلك العفونة عن فمها، ورحض ذلك التقذير الذي حصل من أجل الافتراس، وكلا التقديرين لا عثار عليه، خلا أن الليلة هي نص الإمام، واليوم والليلة مخرجان على مذهبه، والنص خير من التخريج وأقوى نفوذا، لكن التخريج مختص بنوع من الحيطة فلهذا كان سائغا.
وهل يكون ما ذكرناه من الليلة على النص، أو على اليوم والليلة تخريجا على مذهبه، تقريبا أو يكون تحديدا؟
فيه احتمالان:
الاحتمال الأول: أن يكون على جهة التحديد، وفائدته: إن نقص من الليلة ساعة أو من اليوم والليلة تخريجا ساعتان، لم يطهر فمها؛ لأن هذا هو فائدة التحديد بالوقوف على حده من غير نقصان كسائر الأمور المحدودة الشرعية.
الاحتمال الثاني: أن يكون ذلك على جهة التقريب، وفائدته: أنه لو نقص من الليلة أو من اليوم والليلة، ساعة واحدة أو نصف ساعة، فإنه غير ضار في الطهارة. والأجود أن ذلك على جهة التقريب؛ لأن الريق يجري من فمها من دون ذلك، فيكون موجبا للطهارة، والله أعلم.
صفحة ٤٢٢