الأنتصار على علماء الأمصار - المجلد الأول حتى 197
تصانيف
المسلك الثاني: أن الصحابة (رضي الله عنهم) ما زالوا مجتهدين في الحوادث التي ليس عليها دلالة من جهة الكتاب، ولا من ظواهر السنة في الفتاوى والأقضية، والوقائع غضة طرية على ممر الأزمنة وتكرر الأعصار، وما برحوا مختلفين في الفتاوى والأحكام التي يصدرونها عن أنظارهم، وتفترق بهم المجالس عن المخالفة في الآراء، وكل واحد منهم مصوب لما قاله الآخر غير منكر عليه في رأيه واجتهاده، ولو كان في الواقعة حكم معين لطلبوه ولجدوا في طلبه وتحصيله، وما سمع عن واحد منهم أنه قال لصاحبه: هذا خلاف حكم الله، وحكم الله شيء آخر غير ما ذهبت إليه، بل من حكم بقضية وأبرمها فلا اعتراض عليه بحال، ويتشددون في التحرز عن بعض القضايا الصادرة عن الأحكام مع مخالفة الآراء، بل وربما يصدر من جهتهم التصريح بالتصويب في الأراء، وفي هذا دلالة قاطعة من إجماعهم على أنه ليس هناك حكم معين، هو شوف (¬1) المجتهد ومقصده ومقصد نظره، وإنما هي كلها آراء صائبة وظنون صادقة على تحصيل مراد الله في الحادثة، وهذا المسلك يدريه من مارس طرفا من سير الصحابة رضي الله عنهم وما كان منهم من الفتاوى في التحليل والتحريم وإصدار القضايا عن الآراء الصائبة، فعند ذلك نعلم قطعا ويقينا صحة ما ادعيناه من تصويب الآراء الاجتهادية في جميع الحوادث التي لا نص فيها. ولنقتصر على هذا القدر من الدلالة ففيه مقنع وكفاية.
التقرير الثاني: في بيان المختار في الأشبه من الاجتهاد.
اعلم أن جماعة من المصوبة زعموا مع القول بكون الآراء صائبة في الاجتهاد، أن فيها أشبه على معنى أن الله تعالى لو نص على الحادثة لما نص إلا عليه، وعلى معنى أنه الأجزل ثوابا عند الله تعالى، وهو محكي عن جماعة من الحنفية، منهم: أبو الحسن الكرخي، ومحمد بن الحسن الشيباني، ومروي عن الشافعي.
والمختار عندنا: أنه لا معنى للأشبه وأن جميع الآراء في تلك الحادثة كلها أشبه إلى قائله، وأنها كلها مقصودة لله، وإنما تقوى وتضعف بحسب قوة الأمارة وضعفها، وهذا هو رأي أهل التحقيق من المصوبة، أئمة الزيدية والجماهير من المعتزلة: أبي علي وأبي هاشم وأبي الهذيل. وإلى بطلان الأشبه ذهب المحققون من الأشعرية، كالباقلاني، وأبي حامد العزالي، وشيخه عبدالملك الجويني، فأما الشيخ من المعتزلة، فليس له فيه تصريح بإثبات ولا نفي، وكلامه فيه احتمال.
والبرهان على ما اخترناه يظهر بتقرير حجتين:
صفحة ١٥٥