كل هذا الرتل مضاف إليه الزي المشيخي أصبح محل هيبة ورهبة وتقديس وعصمة وكمال مطلق، حتى ألحق المسلمون القدسية بمن لا قدسية لهم من بشر؛ كالصحابة مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، أو كالمحدثين مثل البخاري، أو الإخباريين كابن كثير، حتى وصل التقديس إلى مشايخ وعاظ كالشعراوي مثلا. فأصبحت تقام له المقامات وتعقد له الندوات وتصنع لتاريخه مسلسلات تعيد زمن المعجزات والألطاف الربانية، المفتراة على رب العزة.
ترى، هل أهان المسلمون ربهم، فأهانهم وخسف بهم وكسف عنهم فصاروا عبرة للأمم عندما تضل بها المسالك إلى المهالك؟ هذا هو أول الغيث القاسي وبداية التشخيص الموجع، في خريطة الطريق نحو الإصلاح.
لم يسبق أن مرت بلاد المسلمين بمثل هذه الفترة التي تغطيها الفوضى الكاملة، فمنذ الصحوة الإسلامية والحرب الأفغانية ضد السوفييت، حتى أحداث 2001م وما بعدها وحتى اليوم، حدثت تحولات انتكاسية عنيفة، فدخلت البلاد الإسلامية في طور من الاضطراب والتخلف زيادة على تخلفها الأزلي، وانتشار الأمراض الاجتماعية حتى وافت على غيبوبة ما قبل خروج الروح. مع هذا ورغم كل مظاهر الانحطاط التام فإن دعاة الفكرة القومية العنصرية، ودعاة الفكرة الإسلامية الطائفية، يؤكدون على هذا التوصيف لحالنا؛ فإنهم في الوقت نفسه وشعوبهم في حالة كبوة هائلة، يروجون أن ما يحدث في بلادنا هذه الأيام هو انتصارات لأمة الإسلام وللأمة العربية، وأن هناك نكسات بسيطة هي إلى زوال، وتتمثل تحديدا في دويلة الكيان الصهيوني المغروسة وسط الأمة لتمزيقها، وحليفتها الكبرى الخاضعة للوبي الصهيوني، الولايات المتحدة الأمريكية، وعدا ذلك كان من الممكن أن يكون المسلمون سادة الكوكب الأرضي، وأن أي مصائب تلحقنا فهي ليست من عند أنفسنا، إنما هي من عند الغرب الكافر اللئيم الشرير الذي يبيت ساهر الجفون يدبر لنا المكائد والمؤامرات، دون الملل والنحل كافة في المسكونة.
المصيبة أن هذين الفريقين (دعاة الفكرة القومية ودعاة الفكرة الإسلامية) هما من يشكلون اليوم المعارضة الواضحة في الشارع للأنظمة الحاكمة القائمة، وهما على اتفاق مع الأنظمة بشكل مدهش ومحير، على تحويل أنظار المسلمين عما يجري لهم نحو ما يجري في بيوت الآخرين في إسرائيل وأمريكا وبقية دول الغرب. وتمكن كلاهما عبر أجهزة تشكيل الرأي العام من صحف ومذياع وتلفاز ومدرسة ومسجد وكنيسة وحسينية من تحويل المجتمع إلى حالة هوس ديني لا نظير له ولا شبيه.
تراه يتظاهر بوحشية كاسرة ضد أمريكا وإسرائيل، وبأشد ضراوة ضد كنيسة وطنية في الحارة المجاورة لأنها تجرأت على ترميم دورة مياه فيها دون إذن المسلمين، ويعتدي بالسب والتبخيس على البهائيين، ولا يرى أبدا حاله ومرضه الداخلي بالمرة، فنبدو بلهاء بشدة عندما نتظاهر بغضب عارم ضد الرسوم الدانماركية المسيئة للرسول
صلى الله عليه وسلم ، بينما المسجد المجاور والتلفاز والإذاعة تكفر المسيحيين علنا في «بلادنا» بلادهم وعلى أرضهم آناء الليل وأطراف النهار، فنبدو كالآباء الذين ينتقدون أولاد غيرهم المشاغبين طوال الوقت، لكننا سريعو الغضب ممن ينتقدون أولادنا المشاغبين، وهو ما يعطي الحكومات الاستبدادية مبررا لطلب النصرة من هذا الغرب الديمقراطي المفترض أنه ضد الاستبداد، ومبررها هو أن بديل تلك الحكومات التي تدعي الاعتدال وتمارس بعض ألعاب شبه ديمقراطية، بديلها هو هذا الشارع المتوحش المتعطش للدماء الكاره لإسرائيل وكل دول الغرب، بل وربما كل دول العالم غير المسلمة. حتى أصبح من بديهيات الواقع أن تجد الاستبداد واضحا وقائما، وأن تجد الحقوق الإنسانية في حالة غياب تام، حيثما تجد أغاني الهجاء لإسرائيل وأمريكا والغرب كثيرة الترداد وحشية النبرة، متكررة، عالية الصوت.
لقد أمكن للأنظمة الحاكمة في الدول الإسلامية، بامتلاك وسائل التأثير في الناس، أن تقوم ببرمجة شعوبها بألوان من الأفلام والحوارات وبرامج الشو والدراما، التي تدلك غرائز العزة ومكامن القوة المفقودة، فتعاد وتكرر مسلسلات أبطال العرب المسلمين، وسيرتهم العطرة في غزو البلاد واحتلالها، تعظيما لمجد الماضي الإسلامي، وأنه بالإسلام وحده يمكن استعادة هذا الذي ضاع؛ لا وجود في رؤيتها للمواطن وحقوقه أو حتى للوطن؛ لأن تلك الأمجاد التاريخية كلها كانت على أشلاء وكرامة وإنسانية المواطن؛ لأن الهم الشاغل كان وما زال، هو الأمة الإسلامية وليس المواطن؛ فما أكثر المواطنين! وهم كالعدد في الليمون والحمد لله. يمكن أن يكونوا وقودا لمجد الأمة وسلاطينها ورجال دينها وصراعاتهم على الفريسة عند الحاجة. ولأن الاستبداد واحد سواء أكان دينيا أم قوميا، ثوريا عسكريا أم ملكيا أم جمهوريا، فقد توافق الفقيه والسلطان والمعارضة القومية والإسلامية كلهم معا على تقديس ذات الأمة التي هي قدس أقداس القبيلة المسلمة، دون مكونها الحقيقي «الإنسان المواطن الفرد».
وتعرض وسائل إعلامنا نماذج تكاد تجعل من شخوص التاريخ الإسلامي كيانات قدسية، لا تفعل إلا من أجل خير ودفعا لشر، بنبل ومروءة غير موجودة سوى في السيناريو المقدم للناس، بينما التاريخ الإسلامي نفسه في واقعه وفي مراجعه الأمهات يقول شيئا آخر مختلفا بالمرة.
فتاريخ المسلمين كله هو تاريخ فتن وصراع على الجاه والسلطان منذ فجر عصرنا الذهبي منذ الخلفاء الراشدين الهداة المهديين الذين ماتوا صرعى القتل رغم حرصهم على الشرع الذي لم يؤد إلى أمن المجتمع ولم يحفظ لرأس الحكم أمنه وحياته، فانتهت حياتهم قتلا، إلى الثورة على عثمان، ثم واقعة الجمل سنة 36ه، ثم صفين 37ه، ثم مذبحة آل البيت في 61ه، ثم غزو جيش يزيد سنة 63ه لمدينة رسول الله، فقتل من قتل وسبى من سبى وحبلت ألف عذراء من هتك العرض العلني، وهن بنات الصحابة وفي حضرة المسجد النبوي وجسد صاحبه الشريف في ثراه، ثم فتنة المختار الثقفي وابن الزبير في 73ه، ثم ضرب الحجاج بن يوسف الثقفي وجيشه مكة والكعبة بالمنجنيق، ومن يومها لم تتوقف الفتن والملاحم والمحن، حتى سقوط الخلافة العثمانية، ولو دققنا في التفاصيل لما كفتنا ألوف الصفحات التي لم تسجل سوى القتل صبرا والظلم قهرا تحت رايات كلها تعلن إسلامها التام والكامل ... إلخ وكفر غيرها.
ثم اشتبكت الأدوار في بلادنا بعد الصحوة العنترية بين المسجد والمدرسة والجامعة، ولم تعد مهمة المدرسة تعليم العلم الإنساني بل تعليم الإيمان، تتدارس فضيلة النقاب مقارنة بفضيلة الحجاب، وتتباحث في شئون الفرج والطهارة والطمث والمواريث. مع إسراف في تقديس ما لا يصح تقديسه، والدفاع عن الموروث الإسلامي بل احتسابه الكمال ذاته، والنظر إلى التاريخ الإسلامي بعين الرضا الكامل، بل تمني بلوغ ما بلغته الأمة خلال هذا التاريخ الذهبي، حتى يتقدس التاريخ الإسلامي ويصبح محل المثل الأعلى لكل التأريخ؛ مما يخرج كل ما له علاقة بالإسلام سيرة أو تاريخا أو فقها خارج أي محاولة درس نقدي حقيقي، فتخفى المعايب وتستفحل النقائص، بينما هذا التراث المعيوب قد أصبح المرجعية التأسيسية لمثقفي المسلمين، بل يكاد يكون وحده مطلق المرجعية لكل شيء وكل شأن. وفي مناخ كهذا يكون الاقتراب من هذا الماضي بأي رؤية نقدية تلتزم شروط المنهج العلمي هو اعتداء على ثوابت الأمة، بينما يتم النفخ في الذات المعنوية للأمة حتى يجعلوها المنجز الأول لأي حضارة على كوكب الأرض، وأن ما نراه من تحضر ورقي في البلدان الحرة هو منقول عنا، وما كان يتحقق لولانا، أو الأحرى لولا هؤلاء الأسلاف التراثيون. بينما يتم تقليص التاريخ الوطني ما قبل الغزو العربي الاستيطاني لهذه البلدان حتى يكاد يختفي من التاريخ، فتضيع جذور الوطن وتلتبس الهوية: هل نحن مصريون أم عرب أم مسلمون، هل نحن أمة مصرية أم عربية أم أمة إسلامية؟
صفحة غير معروفة