وصدق الله وعده لنبيه بانشمار الأحزاب راجعين إلى بلادهم، ناهيك عن النتيجة الأهم والأخطر وهي تحرير يثرب تماما من العنصر اليهودي، بعد أن همت قريظة بالخيانة، فقد زحف الجيش الإسلامي وحاصر قريظة، فأرسلت لمحمد أن يرسل لها أبا لبابة بن المنذر الأوسي، «قالوا: يا أبا لبابة: ماذا ترى؟ وبماذا تأمرنا؟ فإنه لا طاقة لنا بالقتال »، وجاء رد أبي لبابة بإشارة من إصبعه مرورا على عنقه (يريهم أنه الذبح) (ابن كثير، البداية، ج4، ص121).
يروي الطبري: «فقام إليه الرجال وأجهش إليه النساء، والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم، وقالوا: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد، قال: نعم، ثم أشار بيده إلى حلقه: إنه الذبح» (التاريخ، ج2، ص584). «وقد كان حيي بن أخطب النضري قد دخل على بني قريظة في حصونهم بعد أن رجعت عنهم قريش وغطفان، وفاء لكعب بن أسد بما كان قد عاهده عليه» (نفسه ص583). فأي قيمة للوفاء بالعهد يعدل احترامها تقديم النفس للموت عن النكوص عن القيمة؟! «ثم استزلوا فحبسهم رسول الله، ثم خرج إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق» (نفسه، ص588) (أي أمر بحفر حفر بالسوق، وذلك قبل صدور أي حكم بشأنهم).
قامت الأوس تتشفع عند النبي لحلفائها القرظيين كما سبق وتشفعت الخزرج للنضير فخرجوا بحياتهم تاركين أموالهم وعقارهم ومتاعهم، فرد عليهم: «ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيكم رجل منكم. قالوا: بلى، قال: فذاك سعد بن معاذ» (نفسه، ص586). وحكم سعد على حلفائه اليهود القرظيين الذين أصبحوا (سابقين)، بحكم شديد القسوة؛ قال: «إني أحكم فيهم بأن يقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء، فقال رسول الله لسعد: حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» (نفسه، ص558-587).
ومن ثم كشف الطبري سر الخنادق بسوق المدينة حيث أمر النبي بذبح القرظيين وكل من أنبت شعر عانته منهم من صبية صغار على تلك الخنادق، «فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، يخرج إليه أرسالا، وفيهم عدو الله حيي بن أخطب وكعب بن أسد رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة، المكثر لهم يقول كانوا نحو الثمانمائة إلى التسعمائة، أتي بعدو الله حيي بن أخطب مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما نظر إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال له: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك أبدا، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب الله وقدره، ملحمة قد كتبت على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه» (نفسه، ص588: 593). وبقي من بينهم ذلك الذي سنعرفه بعد ذلك كصحابي «عطبة القرظي» الذي نجا من المجزرة لأنهم عندما كشفوا عن عانته وجدوها لم تنبت شعرا بعد.
ويحدد لنا البيهقي موقع تلك المذبحة الهائلة: «قتلوا عند دار أبي جهل التي بالبلاط، ولم تكن يومئذ بلاطا، فزعموا أن دماءهم بلغت أحجار الزيت التي كانت بالسوق» (دلائل النبوة، ج4، ص20)؛ وهو وما يعني أن الخنادق قد امتلأت بالدم ثم فاضت منها حتى أقصى السوق. ليختم القرآن الكريم الملحمة في موجز بليغ يقول:
ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا * وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا * وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا (الأحزاب: 25-27).
كادت قريظة أن تهم بنقض صحيفة المعاقل، التي كتبت قهرا وشوكة، فكان عقابها عملية إفناء كاملة. أليست العقوبة أشد بما لا يقارن بالجرم؟ في معيار القيم سيكون هذا الإفناء جريمة في حق الإنسانية بمقاييس اليوم وقيم اليوم وتكون الكارثة أعظم فداحة لو اعتبرنا ذلك دينا وقيمة سماوية، مع ملاحظة كيف نقض السعدان ابن معاذ وابن عبادة العهد مع غطفان بشديد البساطة، وكيف نقض سعد بن معاذ عهده مع حليفته وحليفة الأوس قريظة بإصداره حكما مرعبا شديد الوطأة وبلا شبيه في تاريخ الجزيرة بذات الهدوء والبساطة، إخلاصا لإسلامه ولنبيه، وهو ما تلحظه أيضا في موقف أبي لبابة الأوسي، مع ملاحظة أخرى في الموقف المبهر في وفاء حيي بن أخطب بعهده لصديقه كعب بن أسعد القرظي بالدخول معه إلى حصنه، وهو يعلم أن مصيره الموت لا محالة.
على مقياس القيم كما نفهمها لا بد أن يحتسب ما حدث خروجا على كل القيم الإنسانية، من أجل قيم تحتسب دينية بينما كانت سياسية وعسكرية لها ظرفها التاريخي، ورغم أن ما حدث كان مجزرة بكل المعاني، إلا أن التاريخ يمتلئ بالمجازر، والأهم كان في النتائج، وقد حققت مجزرة قريظة بعد ذلك دورها في إرهاب الجزيرة كلها بعدما تسامعت بخبرها مما سرع عملية الخضوع الطوعي لسيادة المسلمين، كان سعد بن معاذ يرنو إلى المستقبل وهو يصدر حكمه المخيف والمرهب لكل جنبات الجزيرة مدويا رجع صداه هلعا أينما سمع.
صفحة غير معروفة