ليس هناك عقد في التاريخ كله أعلى درجة في القيمة من كل العهود كعهد الأسرة الذي أسس لقيام المجتمع الإنساني، لكن الإسلام جب حتى هذا العهد، فقتل الابن أباه في سبيل الله، وقتل إخوانه وعشيرته في سبيل الله. كل هذه المعاني تكتسب قيمتها من قدسية الدين لا من مشهد الوقائع على الأرض، فمشهد الوقائع ينفي عن كل تلك الأحداث أي معنى للقيم بمعناها الإيجابي الذي نفهمه منها اليوم بعد مرور أربعة عشر قرنا تغيرت فيها المفاهيم واكتسبت القيم دلالات جديدة، لكننا كمسلمين نصدق ونسلم بضمير مستريح كامل اليقين، ونرى أن لله حكمته في ذلك والتي تخفى علينا، لكن مثل هذا المأثور سيثير في الضمير المسلم الكثير من المشاكل لو تصورناها صالحة لكل زمان ومكان؛ لأن كسر القيم الموضوعية لمصلحة الربانية، كان له هدف يتعلق بعرب الحجاز وتاريخهم وحدهم، عندما كان الإسلام يقيم لهم دولة كونفدرالية في حالة خاصة جدا بهم وبزمنهم وبيئتهم ونظمهم، ولا يتعلق بنا ولا بأوطاننا ولا بتاريخنا الوطني لا في مصر ولا في إفريقيا ولا في الشام ولا في فارس؛ لذلك فإن القول بالصلاحية لكل زمان ومكان لا بد أن يفضي إلى تناقض صارخ بين ما وصل إليه الإنسان اليوم من قيم وبين قيم كانت تناسب بيئتها البدوية القاسية وعاداتها الجافية، وظروفها السياسية التي استدعت بتصريح النبي للمسلمين ب«المكر والخديعة»، وإلا ما قامت دولة القبائل الاتحادية الإسلامية لعرب الجزيرة ولا توحدت قبائلها تحت رئاسة قريش.
كانت قيما ضرورية لزمانها، لكنها في زماننا هذا ستكون خللا فادحا في القيم، ومن يستدعها مؤمنا بقدرتها على الفعل الأخلاقي اليوم، يخرج نفسه عن الإنسانية جميعا وما تواضعت عليه من قيم هي الأرقى موضوعيا. وما قطع رءوس الأبرياء أمام الكاميرات مع التكبيرات الإسلامية بيد مشايخ الجهاد الزرقاويين ببعيد، هو عودة قاصرة إلى ظاهر الدين لا محتواه، ودون معرفة صادقة بظروف الوحي التاريخية، بل ورفض لهذه التاريخية أصلا، وهو ما شكل صورة المسلم القبيحة أمام العالمين، وهو بالتأكيد ما لا نريد لأنفسنا ولا لديننا، ولا يبقى سوى أن نؤمن ثم للصلح مع زماننا نسلم أن مثل نلك القيم إنما كانت تخص زمانها ومكانها وحدهما، وسحبها لزماننا لم يؤد إلا لما نراه من خراب الضمائر، ودمار الديار، وفساد وإفساد هائل لم تعرفه بلادنا قبل صحوتنا قط، لا بارك الله فيها.
أتابع النقض الثاني لصحيفة المعاقل التي عقدها النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
لكل أطراف المدينة وفرقها، ولم تعش شهورا، حتى تم تقضها، النقض الأول بغزوة النضير وإجلائهم عن مدينة يثرب فتوجه بعضهم نحو فلسطين، وتوجه بعضهم الآخر بقيادة زعيمهم حيي بن أخطب نحو واحة خيبر شمالي الحجاز على مبعدة حوالي 400كم من يثرب، ضيوفا على أهل ملتهم هناك، ثم النقض الثاني الذي انتهى بمجزرة قريظة وهو مناط البحث هنا.
في حديثه عن القيم في الإسلام يذكرنا الشيخ قرضاوي المرجع الفقهي الأشهر بالآيات الكريمة:
قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون * والذين هم للزكاة فاعلون * والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون * والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون * والذين هم على صلواتهم يحافظون * أولئك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون (المؤمنون: 1-11).
ويعقب بأن ذلك يعني أن الله قد جعل من قيمة الوفاء بالعهد قيمة ترقى في تلازمها مع أداء العبادات، فيكون المسلم متعبدا لربه عندما يراعي هذه القيمة (ملامح المجتمع المسلم، مكتبة وهبة، ص92-109).
معلوم في كتبنا التراثية أنه رغم النزاع الذي نشب بين قبيلة النضير اليهودية والمسلمين وانتهى بإجلاء النضير، فإن قبيلة قريظة اليهودية رفضت مد أي عون لشقيقتها النضير، وأصرت على الحفاظ على عهد صحيفة المعاقل، منعا لأي سبب قد يجر عليها ما هي في غنى عنه.
وقد حظي «حيي بن أخطب» سيد النضير بسهم وافر من الذكر في تاريخنا؛ لأنه هو من قام بحشد العرب وتحزيب الأحزاب ضد المسلمين، وجمعهم في حلف ضد يثرب لكسر شوكة المسلمين، ثأرا لقبيلتي قينقاع والنضير، فأخذ سادة العرب اليهود مثل سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع وهوذة بن قيس الوائلي وأبي عمار الوائلي، وانحدر بهم إلى مكة ليدرك ثأره من محمد
صفحة غير معروفة