والخطورة اليوم ليست على دين الإسلام؛ فالدين؛ أي دين، لا يموت ولا يندثر؛ ولأنه فكرة، لأنه ثقافة؛ فما زالت الجميلة بين الآلهة الرافدية «عشتروت» تحاط بالرعاية والتكريم في كل ثقافات العالم وفي كل متاحف الدنيا، يحيط بها عشاق من كبار العقول الأركيولوجية وفلاسفة التاريخ والأديان، ومثلها «إيزيس» المصرية، و«أدونيس» الفينيقي، و«البعل» الشامي. وقصة الخلق المصرية، والبابلية، وملحمة جلجامش، وحكايات ملقارت، وملحمة الطوفان البابلي، كلها محل احترام فلم تفن وما زالت من التاريخ، بل وجدت عشاقا من لون آخر ونوع آخر، ومن انتهى من التاريخ هم البشر من أتباعها وعبادها. ليست الخطورة إذن على دين المسلمين؛ فالدين له صاحب كفيل به، بل الخطورة الحقيقية هي على المسلمين من الزوال الوجودي من عالم البشرية بالاندثار التام، بعد أن غابوا عن هذا الوجود كفكرة وفعل وعطاء، وغرقوا في مستنقعات الجهل والخرافة والتخلف والجمود والاستبداد والانحطاط الخلقي والإنساني، رغم أن المسلمين يشكلون حوالي خمس البشرية على الأرض. هنا الذعر الحقيقي أن تطول الأزمة بالمسلمين فيغيبوا وجودا كما غابوا حضورا ثقافيا، وهم - حسب ما نعتقد كمسلمين - المكلفون بالشهادة على الناس، بحسبانهم أمة وسطا حسبما أخبر القرآن الكريم، بينما هم ما عادوا لا أمة وسطا ولا طرفا، ولا هم أمة أصلا بحالهم هذا، ولو قلنا تجاوزا إنهم أمة، فهم أمة مريضة تصدر أمراضها كراهية وإرهابا للعالمين.
وينعى المسلمون على الغرب الكافر تحلله الأخلاقي وعريه وحرياته اللامحدودة، ويعتقدون أن الأخلاق قاصرة على الإسلام والمسلمين، وأنها الشيء الوحيد تقريبا الذي تملكه؛ لذلك تعتز به وتنافح عنه وتباهي به الدنيا، رغم أن الصحوة الإسلامية أثبتت عدم امتلاكها حتى هذا الجزء المعنوي الذي تتباهى به، فأسقطت جميع القيم الأخلاقية دفعة واحدة، فصار الكذب مباحا بعقيدة «التقية»، وأموال البنوك مستباحة لأنها ربوية، وأموال غير المسلمين غنيمة مستباحة لأنهم محاربون شاءوا أم أبوا وسواء أكان ذلك موافقا فعلا لشرع الله من عدمه، هذا ناهيك عن فقه كامل يكرس الاغتصاب بملك اليمين يتم تدريسه حتى اليوم في الفقه على المذاهب الأربعة في مدارسنا الدينية من الأزهر إلى طالبان. ناهيك عن استمرار الشيعة في العمل بنكاح المتعة، إضافة إلى مسيار القرضاوي، وزواج الفرند عند الشيخ الزنداني، والعرفي، ومفاخذة الرضيعة كما أفتى خميني ... إلخ، ولا تفهم معنى الزنا هنا بالمرة، ولا أين هي الأخلاق التي يفاخر المسلمون بها العالمين والتي تقف جميعا عند أخلاق الجنس وحدها، وهي الأخلاق المفقودة حتى في هذا العنصر الخلقي الوحيد الذي نتباهى به حجابا ونقابا دليلا على عفتنا الجنسية التي هي كل الأخلاق بنظرنا.
المشكلة التي ستواجه الجديد هنا هي اعتقاد المسلم بعصمته، والكمال التام للتراث الإسلامي بكليته؛ رغم أن التراث الإسلامي بوضعه الحالي قد اختلط فيه الإلهي بوجهة النظر الفقهية بالمذهب بالتأويل المناسب لعصر دون عصر، بتقنين تشريعات على المذاهب المختلفة على ما بينها من اختلافات شديدة التباين والتناقض على أبسط الشئون، التي لا تحتمل رأيين أو تفسيرين، كما في حال الحدود التي تفعل العقوبات البدنية مثلا، فقطع يد إنسان ليس شأنا بسيطا حتى تختلف المذاهب السنية الأربعة حول مستوى القطع: هل هو من الأصابع أم من الكف أم من الكوع أم نخلعها من الكتف خلعا؟ وهي آراء المذاهب الأربعة في مستوى القطع! ناهيك عن القصور الشديد في هذه الشريعة عن مواكبة الزمن، وهذا قول لا يشين الشريعة ولا يقلل من قيمتها فقط، دون إغراق في المثالية التي أعتبرها في كثير منها كانت صالحة لزمنها وحده، ومما لا يتوافق مع زماننا كمثال واحد، كانت الشريعة تعاقب بالقطع على السرقة إذا كان المسروق في حرز أي في مكان مغلق، لكنها لا تعاقب بالقطع على سرقة السائبة؛ فهي ليست سرقة تستحق القطع، كالسوائم الهائمة في الطرقات أو في البراري، وبتطبيقه اليوم ستكون سرقة السيارة غير مستوجبة للقطع لأنها سائبة، بينما ستكون سرقة الكاسيت الموجود داخلها هي العقوبة التي تستحق القطع؛ لأنها في حرز حسب شريعتنا. المهم أن ذلك إنما يعني استحالة تطبيق العقوبات البدنية بشكل نضمن فيه العدل التام وعدم ارتكاب الإثم في الحكم؛ وهو ما يعني أيضا أن الشريعة كما هي عليه الآن هي وضعية كأي قانون وضعي، من وضع فقهاء لم يكن يأتيهم جبريل بالوحي.
ومن بين هذه الشرائع التي وقفت عند زمانها لا تريم حراكا، ويتم فرضها على واقعنا التشريعي والقانوني فيما يعرف بقوانين الأحوال الشخصية، والتي هي الأشد مساسا بمعاش الناس اليومي، قوانين الزواج والطلاق التي لا تكترث لجريمة الخيانة إلا مع الأنثى المحرم عليها ما هو حلال للذكر؛ فله الزواج بأربع، وله وطء ما لا عدد له ممن ملكت يمينه دون أن يعتبر ذلك زنا في حق الحياة الزوجية يستحق العقوبة وأقلها فسخ العقد برغبة الزوجة المتضررة، وهو ما لم يحدث إلا بعد إقرار قانون الخلع في مصر، الذي يعيد للزوج كل مليم دفعه بعد الأكل والمرعى والمتعة، حتى تستطيع الزوجة أن تنال عتقها. هذا بينما شرائع البشرية كلها تعتبر إقامة أي علاقة خارج الزواج المفرد على أي لون كانت هي خيانة زوجية. ويحق للزوج طلاق زوجته دون إبداء أي أسباب. والشريعة على تنوعها الفقهي لا تعطي للزوجة أي حقوق بمجرد تطليقها اللهم إلا شروطا سبق اشتراطها أو مؤخر صداق وافقا عليه. ولسد هذا النقص الشديد اخترع الفقهاء، كل حسبما ربنا قدره عليه، إلزام الزوج بنفقة لزوجته مؤقتة، لم يحدد مدتها ومتى تتوقف (مثلا عند زواج المرأة مرة أخرى لوجود من يعولها)، وهي في الغالب لا تزيد عن مكافأة سنة، أو نفقة بعدد القروء الأربعة، إضافة إلى اجتهاد بسنة أخرى تكاليف على الزواج مقابل المتعة وتسمى نفقة متعة.
وهكذا انحرف المسلمون عن الميزة التأسيسية للإسلام التي تخصه بالفرادة بين الأديان، وهي الاعتقاد بمقدس واحد هو إله مطلق فوق الزمان والمكان؛ فاعتقدوا بعصمة رجال مثلنا يصل عددهم إلى الآلاف، فقدسوا الصحابة استنادا إلى حديث: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.» وتعريف الصحابي: هو من رأي الرسول ولو ساعة؛ أي ولو لحظة، وبهذا يكون تعداد الصحابة المقدسين بالآلاف؛ وهكذا استبدل المسلمون جاهلية ما قبل الإسلام، بجاهلية أكثر نكاية وأشد ضررا، تفتك بعقل المسلمين فتكا، وعادوا وثنيين، وأشد ضراوة في وثنيتهم من الوثنيات التقليدية في تاريخ الأديان. بينما الإسلام نفسه كان واضحا غير ملتبس في قصر القدسية والعصمة على كيان واحد في الوجود هو: الذات الإلهية، ونعى الوثنيات والشركيات والراكنين إلى ما وجدوا عليه آباءهم الأولين، وخاطب مصطفاه بكل صفات العبد التام العبودية، وأنه مجرد حامل للرسالة ليس أكثر، فلا هو رب ولا هو ملك ولا هو معصوم عن بشريته؛ لأن المعصوم هو الكمال الإلهي وحده؛ ومع ذلك أعطاه المسلمون أعلى صفات الألوهية وهي العصمة والكمال؛ وهو يناقض تاريخ جدل الوحي مع الواقع وتدخله الدائب لإصلاح مسار أو قرارات أو مواقف أو تشريعات، أخطأ فيها النبي ببشريته وفطرته. فالنبي محمد
صلى الله عليه وسلم
في صحيح إسلامنا هو عبد من عباد الرحمن ونبي كريم، أدى رسالة ربه تامة كاملة صافية بيضاء نقية. وقد خشي النبي
صلى الله عليه وسلم
أي قدسية قد تلحقه شخصيا إذا ما حفظ المسلمون كلامه «حديثه» إلى جوار القرآن كلمة الله التامة؛ لذلك نهى وأكد النهي عن تدوين حديثه وأمر بوضوح: «لا تكتبوا عني سوى القرآن.» ورغم ذلك سمح المسلمون بالتدوين عن نبي نهاهم عن التدوين «وما نطق عن هوى»، بل واختلاق الأحاديث المكذوبة ونسبتها إليه، بل وحازت تلك الأحاديث قدسية في المذهب السني ترفعها فوق القرآن كرامة وفعلا وقدسية، فقالوا: إنها تنسخ آيات القرآن؛ كما في إصرارهم على وجوب الاستمرار بالعمل بحد رجم الزاني المحصن استنادا إلى الحديث وحده دون وجود نص في القرآن بهذا الحكم، وإن كان حد الرجم في الأصل نصا قرآنيا منسوخا فالذي نسخه وألغاه حتى اختفى من القرآن المدون، هو صاحب القرآن؛ رب العزة والجلالة، وليس فقيها من الفقهاء،
قاتلهم الله أنى يؤفكون .
صفحة غير معروفة