سيد القمني
توطئة تشخيصية
انتكاسة المسلمين إلى الوثنية!
معظم دول الإسلام، أو رجل العالم المريض، تأتي في مرتبة أكثر البلدان تخلفا على كل المستويات، وما زاد الأمر نكاية هو الصحوة الإرهابية التي جعلت من المسلمين أصحاب الحظ الأوفر في العمليات الإجرامية الأشد بشاعة في العالم؛ مما استجلب على المسلمين عداء العالم كله، في وقت يشكلون فيه أشد الشعوب تخلفا وضعفا وما أكثر عددهم وما أكثر هزائمهم، وهو ما استتبع ليس العداء فقط، بل الاحتقار والحصار ومعاملة المسلمين معاملة ترويضية، كمن يروض حيوانات مفترسة لم يرتق إدراكها بعد، ولا تملك حسا أو ضميرا إنسانيا، فيطعمه ويسقيه بالمعونات لكن يحدد له دورا لا يتجاوزه، ويقسو عليه أحيانا أخرى فيحاصره ليتم تحجيمه باستمرار، ويحافظ على بعضهم من الانقراض كحفرية حية، ويترك بعضهم في مناطق أخرى يأكلون بعضهم في فوضى خلاقة حتى تصفو النيران عن رماد خامد غير ضار.
وبسبيل العثور على ثقب في هذا الواقع الآسن نحو تغيير وإصلاح يؤدي إلى خلاص وانعتاق منطقتنا مما هي فيه، انقسم المفكرون في بلاد المسلمين على أطيافهم من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، إلى فريقين رئيسيين: فريق أرجع الأزمة إلى عدم التزام خير أمة أخرجت للناس بدينها حسب الأصول، وهو ما يجعلها تطلب النصرة السماوية فلا تستجيب السماء لها، بل تنزل بها النوازل والإهانات والكوارث يقفو بعضها بعضا، في عملية تأديب ربانية للأمة كلها؛ وذلك لأنها فرطت في فروض وحدود دينها وتأثرت بما عند الشعوب الأجنبية من أساليب عيش هي على النقيض مما جاء في إسلامنا؛ لذلك حقت علينا النقمة الإلهية، ولا حل إلا بالعودة الكاملة الخالصة إلى هذا الدين والالتزام الدقيق بأوامره ونواهيه وفروضه وحدوده الشرعية وأخلاقه السامية، والتسنن الكامل بسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وسنن الراشدين الهداة المهديين. وعندما يتيقن ربنا من استئهالنا للرحمة حسب معاييره، وقدر رضاه عما حققنا من حسن عبادة وإخلاص، فإنه سيتدخل بنفسه لإنقاذ أمته التي اصطفاها لقيادة العالمين، وهذا الفريق هو الأكثر انتشارا بين جماهير المسلمين.
ويغلب على هذا الفريق روح التنظيم لتعودهم الطاعة المطلقة، فيشكلون جماعات شديدة التنظيم والانضباط والاستجابة الحركية السريعة، تبدو بينها على السطح خلافات في الدرجة لكنها غير نوعية؛ فهي تتوافق جميعا على الأهداف وإن اختلفت الأساليب، ويزعم هذا الفريق أننا قد جربنا العلمانية (يقصدون الدكتاتوريات العسكرية) والنظام الجمهوري والنظام الملكي والاشتراكية والرأسمالية، وسقطت جميعا وسقطنا معها في المزيد من التخلف والانهيار، ولم تجلب تلك التجارب سوى الهزائم المتتالية دون خلاص واضح في المستقبل المنظور، ولا يبقى سوى استيلاء أنصار هذا التيار على الحكم ليحكموا المجتمع حكما إسلاميا، أو الأحرى أن يفرضوا سلطانهم من خلف ستار لحكام مدنيين أو عسكريين شكليين، بحيث يكونون هم المرجعية في اتخاذ أي قرار أو إصدار أي قانون، وأن يكونوا هم الهيئة المحاسبية الأولى الرقابية، دون أن يحكموا بشكل ثيوقراطي مباشر، وبموجب هذا الشكل من الحكم تتم الأسلمة الكاملة للمجتمع والدولة، وعندئذ سوف يتدخل رب السماء لينصر أمته ويعيد إليها أمجاد الفتوحات، كما نصر السلف وهم أراذل أذلة.
أما الفريق الآخر (العلماني) فقد ذهب مذهبا هو على النقيض بالمرة من الفريق الأول، وهو الأقل انتشارا بين الجماهير لكنه الأكثر قدرة على الوصول إلى حلول علمية، والأكثر منطقا، والأقوى حجة، ويستند إلى الواقع الملموس في نجاح العلمانية أينما طبقت؛ لذلك تتم محاربة هذا التيار وطعنه لدى المسلمين بكونه يناهض الدين ويناوئه، حتى لا يصل إلى الناس أصحاب المصلحة فيه، ويعاني هذا الفريق، إضافة إلى التحريض ضده وتبخيسه وتكفيره وتخوينه، خللا شديدا أصيلا في بنيته؛ لأن العلمانية أو الليبرالية هي حرية فردانية بطبيعتها وبما تتضمنه من مفاهيم، فيكون الفرد عصيا على الانضباط والتنظيم الحركي، ولا يخضع العلماني إلا لقوانين العقل والعلم والأصول الحقوقية والدستورية للمجتمع المدني، التي يطيعها عن اقتناع وإيمان بحفظها لسلامته وسلامة المجتمع؛ لذلك فالليبرالية لا تقوم في مجتمع إلا عندما تنتشر بقوتها الذاتية، وقدرتها على الإقناع وما تملكه من وسائل وأدوات للأمن الاجتماعي، وما تحظى به من أدوات علمية تقدم بها نفسها مدعومة بالبرهان والدليل مع نضج الأوضاع الاجتماعية لقيام طبقة صاحبة مصلحة فيها تؤسس لها وتحميها؛ وهو الدور الذي أنجزته في أوروبا الطبقة البورجوازية بعد الثورة الصناعية.
والفريق العلماني بالطبع لا يرجع الأزمة إلى تأثر المسلمين بثقافات غير إسلامية، بل يرى أنهم أبعد ما يكونون عن هذه الثقافات بعدا سحيقا، ولا يرى أن مصائبنا تبدأ مع الاستعمار الحديث وسقوط الخلافة؛ لأن الخلافة كانت قد مرضت وشاخت وكانت تنتظر من يعلن وفاتها فقط، بل إنها كانت هي مصيبة هذه المنطقة من العالم، وإن الاستعمار لم يكن سبب ضعفنا، باحتلاله بلادنا؛ لأنها كانت ضعيفة أصلا؛ مما سمح للآخرين بالتعدي عليها، فضعفنا أصيل في بنيتنا الثقافية، وكان هو سبب الاستعمار وليس نتيجته؛ ومن ثم يعيد هذا الفريق أزمة المسلمين إلى تمسكهم بتراثهم الذي تجمد وتجمدوا معه، وهنا ينقسم هذا الفريق «العلماني» إلى موقفين (إضافة إلى الاشتراكيين): موقف يرى أن الخروج من الأزمة يتطلب التحرر التام والانعتاق الكامل من سلطة التراث الإسلامي أو أي دين آخر، الذي يعوقنا عن التقدم والتكيف مع العصر. وموقف آخر يرى أن المأثور الإسلامي جزء لا يتجزأ من ثقافتنا يستحيل إجراء قطيعة تامة معه؛ لأنه هدف غير قابل للتحقيق بالمطلق؛ لذلك فالحل يكون بإعادة قراءة هذا المأثور الهائل وإعادة تصنيفه وتبويبه، وتجديد فهم النصوص بما يتلاءم مع مصالح البلاد والعباد وظروف العصر ومقتضياته. وصاحب هذا القلم يعتبر نفسه ضمن أصحاب هذا الموقف الثاني من التيار العلماني، ويرى وجوب أن يتم هذا التجديد أو القراءة الجديدة بما لا يصدم الإيمان الإسلامي، ودون الدخول في صراع طائفي مذهبي بين القراءات؛ أي تقديم قراءة تصالحية سلامية للمسلمين قادرة على مواكبة المستحدث في عالمنا الدءوب تغيرا وتبدلا، مع الطموح إلى أن تحوز هذه القراءة رضا المسلمين وأيضا رضا غير المسلمين، وهي مهمة على هذا النحو تبدو عسيرة بل ربما مستحيلة، لكننا سنحاول تجاوز هذه الاستحالة في هذه المجموعة من الدراسات مستعينين بحب جارف لهذا الوطن وللناس في هذا الوطن، وإيمان غير مشوب بقدرة الإسلام والمسلمين على تجاوز كبوتهم التاريخية؛ لأن أزمة المجتمعات الإسلامية تنهض على واقع مختل، تحزبت فيه المجتمعات الإسلامية لدينها وتراثها، بينما هذا التراث تحديدا ما عاد يتجدد أو يتبدل كما كان في حياة صاحب الدعوة عندما كان الوحي يستجيب للمتغيرات، فكان الله في حياة صاحب الدعوة يتفاعل بوحيه جدلا أخذا وعطاء مع حركة الواقع المتغير، فكان ينسي آيات ويبدل أخرى ويرفع وينسخ ويمحو ويثبت: آيات غير آيات، وحديث غير سابقه، وفعل نقيض سالفه، ويتطور مراعيا وقائع الأرض وظروفها المادية البحتة. وبوفاة صاحب الدعوة وتوقف علاقة السماء بالأرض، تجمد المسلمون عند آخر نص في تطور الأحكام ليعتبروه حكما نهائيا صالحا لكل زمان ومكان، بينما هو في حقيقة الأمر ودون أي تجن خارج المكان والزمان، والرؤية الوحيدة القادرة على جعله صالحا لكل زمان ومكان، تنبع من داخل الإسلام ومن ميكانيزمات تكون الوحي خلال 23 سنة؛ فالدرس والأغراض النهائية فيه، هو إثبات مبدأ التغير والتطور مع كل جديد، وليس الوقوف عند آخر تطور حدث في حياة صاحب الدعوة، لأن التطور والتغير هما قانون الكون الأوحد الثابت.
صفحة غير معروفة