وكلنا يعلم أن الإسلام عندما كان يهتم بشأن لا يتركه إلا مفصلا واضحا أبيض شديد الدقة والتدقيق؛ فالصلاة، وعددها في اليوم، ومواعيدها، وعدد ركعاتها، وسجداتها، وماذا يقال فيها، قبل وبعد، والتهيؤ للصلاة بالنظافة من الوضوء وإسباغه وطرقه وغسل اليدين للمرفقين والرجلين للكعبين، وقبل الوضوء الاستنجاء أي دخول الغائط والتنظيف بأحجار لها مواصفات وعددها ثلاثة، كل هذه التفاصيل في شأن تعبدي واحد فما لنا لا نجد عن الحكم والدولة شيئا يذكر البتة؟! لماذا لم يشرح الله لعرب الجزيرة شأن الدولة بدقة، وهو عالم أنهم جهلاء وأن نبيهم أمي؟ لماذا لم يبين سبل تبادل السلطة؟ ولماذا لم يرسل لهم دستورها وكيف تتشكل الحكومة، وأجهزتها الرقابية والقضائية، ودرجات المحاكم، وشكل اقتصادها أحر أم موجه أم مزيج من الاثنين؟ إن السماء لا تعبث فهي عندما تكلفنا شأنا فهي تبين كل جوانبه كما في التكليف بالصلاة، ومع ذلك يقول مشايخنا إن إقامة الدولة الإسلامية فريضة تكليفية بينما لا نجد في القرآن أو السنة أي فلسفة للدولة، ونظم الحكم، والمراقبة، والمحاسبة الحكومية، والشعبية، ودستورها، وقيم هذا الدستور ... إلخ.
وقول دعاة الدولة الإسلامية إن دولة النبي كانت دولة بالمعنى الكامل الذي نفهمه منها اليوم، وكان دستورها هو القرآن الكريم، هو قول يفتقر إلى الدقة، بل إلى الصواب بالمطلق؛ لأن للدستور شأنا يختلف عن القرآن، فمعظم نصوص الوحي ظنية الدلالة كما قرر الأصوليون وجمهور الفقهاء، وهي الإشكالية التي حاول الجويني ثم الشاطبي حلها بالركون إلى المقاصد الكلية للشريعة بدلا من الوقوف عند حرفية النص القرآني. ويقول الشيخ جلال الدين السيوطي: «وقال بعض العلماء إن لكل آية ستين ألف فهم.» فإذا كان النبي في زمنه موجودا ويستطيع أن يحيل إلى الفهم الصحيح من بين الستين ألف فهم، فمن يستطيع اليوم أن يحل محله عندما نجعل القرآن دستور دولتنا؟
هذا ناهيك عن كون نصف آيات القرآن الكريم منسوخا ونصفها ناسخا، وفيها المحكم والمتشابه، وهو كله أمر احتاج بالضرورة إلى وجود النبي بين الصحابة لعلاقته بالسماء التي كانت تتدخل لحل المشاكل المستجدة، أما شأن الدستور المدني والأهم هو قابليته للتطبيق دون اختلاف؛ لأن كلماته يجب أن تكون صارمة دقيقة واضحة لا تحتمل أكثر من دلالة وفهم واحد، وإذا تم إلغاء بند من بنوده يزال من الدستور ولا يبقى فيه منسوخا.
وتقفو الملحوظات المندهشة بعضها بعضا، فقبل الإسلام بقرون طويلة كان أفلاطون قد انتهى من كتابه «الجمهورية»، وانتهى أرسطو من وضع فلسفة السياسة وأحوالها، وقبل الإسلام بقرون طويلة طبقت أثينا نظام الدولة الديمقراطية المباشر، وطبقت روما ديمقراطية تقوم على حقوق المواطنين عبر مجلس الساناتو، ومواد الدستور وسيادة القانون، ولا شك أن المسلم يؤمن أن الله كان يعلم كل هذا، لكنه لم يحدثنا فيه ولا أشار إليه ولا اتخذ منه موقفا، مع ملاحظة أن الإسلام قارن بين الإسلام والأديان الأخرى، واتخذ منها موقفا سلبيا أو إيجابيا، لكنه لم يقل إن لديه دولة وإلا لقارنها بالدول الأخرى مبينا فضل دولته وتميزها عن غيرها، كما قارن بكثير من التفاصيل الواضحات القاطعات بين الأديان لبيان فضل الإسلام على غيره من أديان. ولو أراد لنا أن نقيم دولة إسلامية، وألا نستفيد من تجارب الشعوب الأخرى السياسية، لكان عليه أن يحذرنا من أفلاطون، وأن يندد بدستور روما، ويهجو سياسة أرسطو. ولكن كل ذلك لم يكن واردا لأن الإسلام كان دينا فقط. ونلحظ بشدة أن القرآن قد تحدث عن ذي القرنين الثابت لدينا أن المقصود به هو القائد اليوناني إسكندر بن فيليب المقدوني (انظر كتابنا الأسطورة والتراث)، ومعلوم أن الأخير كان تلميذ الفيلسوف أرسطو، ولم يتم التنديد بأرسطو وفلسفته ولا بربيبه ذي القرنين الذي تسنم ذروة عالية في الإسلام، حتى كاد يكون مثل موسى
صلى الله عليه وسلم
كليما لله. (2) الحاكمية كمؤسس شرعي لدولة دينية
ولدعم موقفهم يرفع أنصار إقامة الدولة الإسلامية مطلبهم تأسيسا على آية قرآنية وشعار إعلامي ترويجي، الآية هي ما يسمونه آية الحاكمية
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (المائدة: 44)، والشعار «الإسلام هو الحل». فكما أنجز الإسلام قديما ونصر الأراذل الأذلة الضعفاء القلة في بداية الدعوة، حتى جعل منهم ومن أخلافهم سادة لإمبراطورية كبرى؛ فإنه وحده هو الكفيل باستعادة هذه النصرة الإلهية، عن طريق عملية السحر التشاكلي حيث ينتج الشبيه شبيهه، فإن أطعنا الإسلام في أدق تفاصيله وعشنا كما عاش النبي والصحابة في طاعة كاملة للسماء، فإن ذلك سيكون كفيلا بإنتاج الشبيه لشبيهه، وسيتدخل الله لنصرة أمته التي أخلصت له الدين، وتعود الإمبراطورية والفتوحات من جديد. وعليه فحل كل مشاكلنا، وكل عمليات الإصلاح الممكنة لا يكون إلا من الإسلام وبالإسلام وهو في النهاية طريق ومنهج سحري ميكانيكي يطالب رب السماء بنصيبه من العقد بالتدخل المباشر بنفسه لإنقاذ خير أمة أخرجت للناس، ودون حلول يقدمها المسلمون لأنفسهم.
إن آية الحاكمية تبدو لنا مؤسسة لدكتاتورية تامة المعاني والمواصفات؛ لأن أصحاب الدولة الإسلامية هم مشايخها، وهم العارفون بما أنزل الله، وهم من يمكنهم تفسير كلام الله، وهم الفاهمون العارفون بشريعة الله، وهم أيضا من يعرف كيفية تطبيقها وحدودها وعقوباتها، باختصار هي دعوة تجعل من أصحابها المشرع والقاضي والجلاد في آن واحد.
ثم إن معنى الآية من لم يحكم بما أنزل الله كافر؛ فهو على الوجه الآخر يعني أن من يحكم بما لم ينزل الله فهو كافر، وإقامة دولة إسلامية لم تكن فيما أنزل الله، وستكون نظاما يقوم مخالفة تامة للآية، فآية الحاكمية ليست في مصلحة الفكر السلفي كأساس يقيمون عليه شرعية دولتهم المرتقبة.
صفحة غير معروفة