لهذا تتجدد الفلسفة غير المحروسة بالكهنة، غير المجمدة، غير المقيدة، وتتطور وتؤدي إلى تطور مناهج العقل نفسه في الفرز والتمييز والاختيار، كما تؤدي إلى تطور منطق العقل فتظهر نظريات وفلسفات جديدة. بينما وجهة نظر فقهاء الإسلام في بلادنا هي وجهة نظر مقدسة، فإن كانت حديثا نبويا ولو موضوعا فهو مقدس لا يصح نقده والتعدي عليه، لاحتمال ولو ضئيل أن تكون نسبته للنبي صحيحة . وإن كانت اجتهادا تحول المجتهد إلى مقدس كالإمام أبي حامد الغزالي (حجة الإسلام) وألد أعداء الفلسفة والعمل العقلي، بينما لم ينل لا الشاطبي ولا الجويني ولا الطوفي مثل هذا اللقب، وإن كانت سعيا وراء جمع المقدس تقدس الجامع، كما في تقديس البخاري واعتبار الفقهاء كتابه أصح كتاب على الأرض بعد القرآن. ومن هذه القداسة تمكنوا من استثمار المقدس الرباني واستخدامه بانتهازية مفرطة، وأصبحوا هم من يفسر الحديث المقدس ليفسروا به القرآن المقدس، وأصبحوا هم معيار قياس الأشياء جميعا، وليس القرآن؛ لأنهم يعلمون أن أحكام القرآن نفسها لا تصلح معيارا لعموميتها وعدم تفصيلها، وأنها تحتاج إلى الشارح المفسر طوال الوقت، فأصبح الرأي بديلا لدين الله، وكتاب الله، هذا ناهيك عما يترتب على هذه المعايير المقدسة من إلغاء العمل العقلي والقضاء عليه مبرما؛ لأن القياس المنطقي سيتم قياسا على ما قال الرب أو قال النبي، أو ما قال الصحابة، أو ما قال الفقهاء.
إن اللجوء إلى المقدس هو نوع من الحصول على الحصانة مصحوبة بالأمر الفوري بالالتزام والتقيد والتنفيذ لأن الآمر سيكون الله بنفسه، هذا بينما كلام الله الذي يقولون إنه المعيار، هم من يقولون أيضا إنه بحاجة إليهم لتفسيره؛ فهو لا يكتمل إلا بهم، ومن ثم يتقدس المفسر لقدسية ما يفسره. البخاري مثلا أصبح مقدسا لأنه فسر القرآن بالحديث. أصبح الفقيه كما رأيتم عند قرضاوي هو من يعلن الرضا أو النفي والطرد والتكفير الديني والتخوين الوطني، هو من يعطي كلامنا تصريحا بالمرور من عدمه. هو من يعطي أي كلام ال
O.K ، مولاهم واخدها مقاولة حفر وردم لوحده.
ومع هذا الحديث حديث آخر يحرض على الرذيلة تحريضا، يقول: «إذا بليتم فاستتروا»، فمن أراد ارتكاب الجريمة عليه فقط ألا يعلنها على ملأ حتى لا تفشو الرذيلة في المجتمع، حسب تفسير فقهنا لهذا الحديث؛ أي حتى لا يعتاد الناس الرذيلة لتكرارها العلني، وحفاظا على الشكل الفاضل دون المحتوى الفاسد، يعني سلامة المجتمع تتأتى بستر المؤمنين بعضهم بعضا، «من ستر مسلما في الدنيا ستره الله في الآخرة»، ليس المهم هو الفعل الأخلاقي من عدمه، المهم الشكل العام للمجتمع الذي يجب أن يتصف بكل الفضائل ليكون خير أمة أخرجت للناس. فكانت النتيجة تفشي الرذائل في نخاع المجتمع دون إعلانها، إلا مع سيئ الحظ الذي قد ينكشف فيرجمه الجميع بأحجار ذنوبهم.
إن فلسفة الأخلاق القائمة على مبدأ «إذا بليتم فاستتروا»، هي فلسفة النمر وقاطع الطريق، هي فلسفة لا علاقة لها بأي أخلاق، وأربأ بسيدي المصطفى
صلى الله عليه وسلم
الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، أن يكون هذا قوله.
الشيخ والغوغاء؟!
من نافلة القول إن المثقف غير المؤدلج دينيا أو عنصريا أو طائفيا، هو اليوم أتعس الناس في مجتمع دول العالم الثالث، التي أصبح اسمها مع ازدياد التدهور والتدني، دول العالم المتخلف؛ لأن الخريطة اختلفت فلم يعد هناك اتحاد سوفييتي كعالم ثان؛ لأن بلادا كالهند والصين واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها قد ارتقت مكانها بين دول العالم الأول، ولم يعد لدينا سوى عالمين: العالم الحر المتقدم، والعالم الديكتاتوري المتخلف. والاختلاف بين العالمين لا علاقة له بالمكان بقدر علاقته بالزمان؛ فالعالم المتقدم يعيش زمنا يختلف بالكلية في المفاهيم ومناهج التفكير والقوانين والسياسة والعادات والتقاليد وباقي نظم المجتمع، عن العالم المتخلف الذي ما زال يعيش زمنا مضى بكل نظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
والسر في تعاسة المثقف الحر من الأيديولوجيا، أنه الوحيد القادر على إدراك حقيقة ما يعانيه مجتمعه من تخلف؛ لأن بقية وسائل الإعلام والتعليم والتديين تجمع على أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، ورجل الدين لا يرى في مجتمع المتقدمين أي تقدم، ويمتدح أوضاعنا الحالية في بلادنا ويراه التقدم الحقيقي، بدليل انتشار الحجاب والنقاب واللحية والزي الباكستاني، يمتدح العودة إلى التفكير حسب زمن القرن السابع الميلادي، حيث خير القرون، بل إن أهل البلاد المتقدمة يعضون علينا الأنامل من الغيظ لما حبانا الله به من عزة وكرامة بالإسلام. وما نراه على المتقدمين وما يصلنا من علمهم وابتكارهم وعلاجاتهم ووسائل رفاهيتهم هو كله تقدم زائف أدى إلى تخلف المجتمع بدلا من تقدمه ، فتحلل المجتمع وتفككت الأسرة وانتشر الفجور وعمت الرذيلة وضاعت الأخلاق وانحطت القيم، فأهل الغرب المتقدم بكل علومهم وفنونهم ونجاحاتهم هم في الحضيض بين المجتمعات، أما نحن فأهل القمة، بل نجلس فوق القمة، وهي القمة التي يراها المثقف الحر رأس خازوق عظيم.
صفحة غير معروفة