أما الملقى في الهواء فهو الذي يستدعي التساؤل: من هم هؤلاء الأغلبية الرافضة للقيم الإنسانية ويفضلون عليها قيمهم الدينية أو المحلية؟ هذا مع ما هو معلوم ومسلم به أنه لو وجدت قيم دينية فستنحاز لدينها وطائفتها؛ فهي إن وجدت ستكون قيما ضد التماسك الاجتماعي والسلام الوطني والإنساني؛ لأنها ستكون طائفية عنصرية تختص بجماعة من المجتمع دون بقية الجماعات، وبأتباع دينها دون الإنسانية جمعاء، بينما الإنسانية كلها قد تواضعت على قيم عامة يقبلها جميع الفرقاء بالتصويت في الأمم المتحدة؛ فهي ترفض مثلا ترويع الآمنين، وترفض الإكراه في الدين وترفض التكفير، وتدعم بلا حدود إطلاق حرية العبادة والتدين ... إلخ.
إن ما يزعمه صاحب هذا القلم هو أنه لا يوجد شيء اسمه القيم الدينية، ولم يأت بها قرآن ولا أنبأنا بها رسول ولا صحابي، وأن حديث فقهاء زماننا عن القيم الدينية هو تأثر بالقيم الأخلاقية الإكسيولوجية الفلسفية المعلومة، فقاموا كعادتهم ينسبون كل تفوق إلى الإسلام، وادعوا ملكيتنا كمسلمين للقيم. علما أن فلسفة القيم الإكسيولوجية أسبق من الإسلام بألف عام، وقيم المصريين الأخلاقية أسبق من الإسلام بخمسة آلاف عام، وقيم الرافدين التي تجلت في قوانين تحميها وتحرص عليها منذ حمورابي لأكثر من ألفي عام، وكلها كانت خبرات ومعارف مكتسبة تمكن الإنسان عبر السنين من أن يستخلص منها ما له قيمة نافعة ليفرزه ويجنبه عما له قيمة ضارة، سواء أكانت القيمة مادية موضوعية تتعلق بتقييم الأشياء أم قيما سلوكية أخلاقية؛ فالقيم معرفة مكتسبة وليست قواعد دينية.
ولأن القيم دينية فلا بد من ربطها بالإيمان لذلك يقول الصاوي إنه قد «نادى الحكماء بالعودة إلى الإيمان الذي يمثل طوق النجاة واستعادة الأمن والأمل والثقة والتفاؤل والعدل والمساواة» (ص39).
وعلى هذا الكلام يترتب اعتراض ثم تساؤلات، والاعتراض هو على القول بأن الإيمان بالله قيمة من القيم الأخلاقية؛ لأن الإيمان بالله اعتقاد؛ لذلك تجد ملحدين ويعملون وفق مكارم الأخلاق ونبالة الإنسان لكونه إنسانا فقط، وتجد أديانا عديدة تؤمن كل منها بالله على طريقتها وتتضمن شرورا مستطيرة، وبالمقارنة ستجد فروقا واسعة بين هذه الأرباب حتى تكاد كل ثقافة تختص بإله له صفات بذاتها.
أما الإنسان فلا يوجد إلا ليصنع لنفسه قيما؛ لذلك فلكل البشر قيم، في حين ليس لدى كل البشر آلهة متماثلة.
إذن فبالإيمان بالله عقيدة قد توجد وقد لا توجد، لكن لا يمكن أن يوجد مجتمع دون قيم تحكمه، سواء أكان مجتمعا مؤمنا أم مجتمعا ملحدا أم وثنيا؛ لأننا لو قلنا إن الإيمان بالله قيمة تميز المؤمن عن غير المؤمن، فالمعنى أن الله أصبح لوحة مكتوبا عليها بأحبار ومطابع الغرب الكافر، مثله مثل السيارة عندما أشتريها أقوم بتقدير قيمتها، أو المعزة عندما أشتريها أضع لها قيمة، وهو مالا يليق بالذات العلية، بينما الله غير متفق عليه ما بين بلد وآخر ومجتمع وآخر، فلكل ثقافة ربها بمواصفات خاصة تجعله بعيدا جدا عن الآلهة الأخرى في الثقافات الأخرى، ولم يحدث أن اتفقت الأديان على مواصفات الإله، ولم يحدث إجماع على إله من بينها. بل إن هناك من لا يؤمن بأي إله وهم كثر خاصة في بلاد الغرب المتقدم.
أما القيم فمتفق عليها فلا يوجد إنسان بدون قيم منحطة أو حسنة وبدونها يكون حجرا غير حي، لكن بإمكان الإنسان أن يكون إنسانا بالمعنى الإيجابي للقيم الإنسانية ولا يكون مؤمنا بأي إله؛ لأن الإيمان بإله هو عقيدة وليس قيمة. وعليه فالقول إن الإيمان قيمة إيجابية يقابلها الإلحاد كقيمة سلبية هو قول غير سليم بأي معنى من المعاني؛ لأن الإيمان مسألة قلبية لا يمكن قياس كميته بالكيلو متر أو الكيلو غرام. ومن ثم لا يمكن تثمينه لتصنيفه على سلم القيم إيجابا أو سلبا؛ فالقيمة كما تخبرنا الدكتورة فوزية دياب تقتضي الاختيار والإيثار الذي يقوم على الترجيح والتفضيل، وللتبسيط أضرب مثالا بمن يذهب للشراء يحمل قيمة تختلف عن القيمة التي يحملها عندما يذهب للزواج وعن القيمة التي يحملها عندما يذهب للسياحة، وعند الشراء سيختلف حكم القيمة ما بين شراء الطعام وما بين شراء لوحة فنية أو تحفة أثرية، سلم القيمة سيختلف في حالة واحدة هي الشراء فكيف يمكن تركيب الإيمان على سلم القيم، إما إيمان وإما إلحاد ولا وسط بينهما لأن الإيمان في النهاية غير قابل للقياس.
ولا تفهم سبب انزعاج فقهائنا المحدثين من وجود الملاحدة في المجتمع رغم أن وجودهم ضرورة لتثبيت الإيمان، حتى قال الصاوي إن من لا يؤمن بالله ليس إنسانا. بينما وجودهم بيننا يعود على المؤمنين بالنفع العظيم؛ لأن المسلم متوسط التقوى قليل الورع يجد نفسه عاجزا عن أن يكون مثل عمر أو أبي بكر أو الشيخ قرضاوي أو الشاب عمرو خالد، فيصاب في إيمانه بالنقص مما قد يغويه بالمزيد من عدم التقوى والورع ما دام لا يستطيع أن يكرن مسلما حقيقيا، بينما عندما يرى الملحدين أمام عينيه فإنه يقيس نفسه عليه فيجد أنه بإيمانه المتواضع من أهل الجنة، وأن جهنم لن تسعى وراءه لتصطاده وأمامها هؤلاء المناكيد. ولا شك أنه سيطمئن باله ويهدأ ويشعر بالسعادة لا بالخوف، ولن يفكر في التطرف والتشدد لأنه سيرى نفسه في قائمة المحبوبين من الله والفائزين يوم يحشرون. ويخرج بذلك من دائرة التشدد لدائرة الإيمان السمح، ولن يكون مضطرا للسعي المستمر للحصول على درجة أعلى فلا يجد سوى رتبة الشهيد التي سترفع أسهمه فوق كل هؤلاء المؤمنين الكبار. إن وجود حرية الكفر هو ضرورة يعلمها الله لذلك أقرها في قرآنه.
أما التساؤلات التي يستدعيها هذا الكتاب فهي: هل هذه الدعوة موجهة لنا نحن المسلمين؟ أم هي موجهة إلى الغرب الكافر؟ إن كانت موجهة إلينا فهو ما يعني أن فقهاء زماننا يروننا قد أصبحنا خارج دائرة الإيمان لذلك يدعوننا للعودة إليها، وهو ما يعني أنهم يعتبروننا قد كفرنا بعد إيمان وبحاجة للعودة إلى هذا الإيمان؟ وبالطبع لا حل لعودتنا إلى حظيرة الإيمان خرافا مطيعة إلا بتمكين فقهائنا من السلطنة ليعيدونا إلى الإيمان؟!
أما إذا كانت هذه الدعوة موجهة إلى غيرنا حيث الغرب العاري المنحل، فلماذا البكاء على حال الكفرة الطاغوتيين؟ أم تراه يرهن رقي الغرب باتباعنا واقتناعه بقيمنا وتسليم قياده لكهنتنا، وإلا لا يمكن وصفه بالرقي والتحضر الذي صنعه لنفسه بيديه؟
صفحة غير معروفة