وإذا كان القول بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على حالها القديم لا يقول به عاقل، إذن فإنه في الدين كما سبق وقلت وأكرر هنا ونعيد ونزيد: إن في الإسلام ما هو صالح لكل زمان وكل مكان كالتسامح والغفران والمحبة ... إلخ، ومنه ما هو صالح لمكانه وزمانه وحده، وهو قول قرضاوي نفسه ولكن من سبيل آخر.
ويبقى أن نتفق حول هذا الصالح لمكانه وزمانه فقط؟ يعني هل ضمن ذلك المحدود بزمكانه ولا يقول به اليوم عاقل: حدود العقوبات البدنية مثلا؟ هل ضمن ذلك المحدود: الجهاد والولاء والبراء؟ إذا كان هو من فتح الباب، فكل سؤال إذن سيكون مطروحا للبحث دون تحريم وتكفير وتجريم، إذن لماذا والحال كذلك ينزعج قرضاوي وكل المشايخ من العلمانيين الذين يحررون الخلاف بإحالته على مرجعية متوافق عليها هي أحكام العقل البشري، مع ترك القديم لزمانه. فلماذا إذن يزعجهم قولنا في وجوب استبعاد الشريعة من الدستور، واستبعاد الدين من المجال الاجتماعي العام، أليس في ذلك ترك القديم لزمانه حتى نضع شرائعنا بأيدينا بما يوافق ظروف زماننا ومصالحنا بالعقل؟
وهو ما وافقت عليه الآيات الصالحة لكل مكان حتى قالت: من شاء أن يكفر فليكفر.
هنا الكلام المفصلي الذي سيفصح عنه الشيخ في حلقة أخرى كان عنوانها: الصحوة الإسلامية ومآلاتها.
حيث يكشف لنا عن اللغز الذي حارت فيه الأفهام؛ فهو كما رأيتم يتفق مع العلمانيين في الوسائل والأهداف، لكنه على مستوى آخر يخالفهم لدرجة تكفيرهم وتخوينهم، رافضا ما يقولون به من تشريع بشري لقوانين وضعية تراعي المصلحة العامة. هذا رغم أن الرجل قال إنه سيعيد صياغة الشريعة بالعقل لأن الشريعة على حالها الآن لا يقول بها عاقل، لكن يبدو أن الشيخ يكسب عقله وصياغته لونا من القدسية، لا يجعلها وضعية كالقوانين الوضعية البشرية في مجالس تشريعية. الشيخ يصر على تأميم القانون لمصلحة الله فيما يزعم، رغم أن الله بذلك أصبح خارج الموضوع، فإعادة صياغة بالعقل يعني أنه وضعي.
ثم ما هي حكاية وضعي هذه التي يلوكونها كلما تحدثوا عن تشريع الشعوب لنفسها، هي وصم لهذه التشريعات بالبشرية، دون أن يلتفتوا إلى أن ذلك هو نعم الوضع، وأن تلك هي نعم التشريعات، وأن الشريعة الإسلامية نفسها التي امتد وضعها زهاء الأربعة قرون متواصلة، مضافا إليها عشرة قرون أخرى من تفسير المتون وشرح الهوامش. هي كلها من وضع البشر، هي من وضع الجعفري والحنبلي والشافعي والمالكي والحنفي والظاهري والباطني، وما اتفقوا يوما على قول واحد رغم أنها أحكام تتعلق بمعاش الناس بل وبحياة الناس، ما بين رجم وقطع من خلاف والذبح صبرا.
إذن يبرز الخلاف في السؤال: من الذي سيضع أو يصوغ القوانين إن لم يكن الله؟ إجابتنا نحن العلمانيين بسيطة واضحة مفرطة في يسرها (من يضعها الناس عبر مجالسهم التشريعية المنتخبة انتخابا سليما سلميا حرا).
لكن قرضاوي لا يرى معنا هذه الاجابة؛ لأن لديه إجابة أخرى، يعود معها في انتكاسة شديدة ليطلب الشريعة التي كانت منذ قليل لا يقول بها عاقل، كمصدر ومرجع دستوري بقوله: «فمرجعية الشريعة هي المصادر المعصومة، مرجعية الوحي الإلهي.»
إذن هذا قرضاوي آخر يقول قولا على النقيض التام مما قال قرضاوي الأول، هذا شيخ وذاك شيخ آخر! فأيهما قرضاوي الحقيقي وأيهما نصدق؟
إن سر الانتكاسة ولعبة البيضة والكتكوت تفصح عن مخفيها عندما تسأل الشيخ عمن سيضع القوانين، فيقول محاولا الالتفاف على المعنى المقصود، في غير مباشرة جهيرة شفافة، «الشريعة تحتاج إلى اجتهاد واستنباط، وأهل العلم عليهم أن يعملوا عقولهم». يعود بنا إلى الشريعة مطروحة بغرفة الإنعاش تعاني نقصا حادا في عوامل الحياة والوجود، تحتاج إلى محاليل من عمل عقل البشر، وحتى لا تكون غرفة الإنعاش مباحة لكل من هب ودب، فقد أوقف قرضاوي على بابها زبانية غلاظا شدادا، حتى لا يقوم بهذه المهمة غير رجال الدين وحدهم الذين يسميهم العلماء، والذين فيما يبدو يملكون وحدهم دون بقية المسلمين ذلك الشيء المسمى عقلا! وهم وحدهم من يملكون الكلمة السرية لفتح المغارة والولوج إلى عالم الشريعة ومفازاته السحرية دون بقية خلق الله. يقول الشيخ: «وأهل العلم عليهم أن يعملوا اجتهاد عقولهم ليستخرجوا الحكم الشرعي من النصوص؛ لأن النصوص بعضها قاطع في دلالته، وبعضها ظني في دلالته، وبعض الأشياء ليس فيها نصوص قط، فنحن نعمل لنلحق ما لا نص فيه على ما فيه نص.»
صفحة غير معروفة