ارتباط الآيات في سورة البقرة - ضمن «آثار المعلمي»
محقق
محمد أجمل الإصلاحي
الناشر
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤٣٤ هـ
تصانيف
الرسالة الرابعة
في ارتباط الآيات في سورة البقرة
7 / 137
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[٢/أ] الحمد لله، وسلامٌ (^١).
سورة الفاتحة ارتباط آياتها ظاهر، وارتباطها بسورة البقرة سيأتي ــ إن شاء الله تعالى ــ بيانه عند الكلام على الآية (١٤٢) من البقرة.
وأيضًا، النتيجة المطلوبة في الفاتحة: هداية الصراط المستقيم، صراط المُنْعَم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. وفي أول البقرة: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [٢] ثم بيَّن فيها أحوال الفرق الثلاث، فكأنه في سورة البقرة شرع في إجابة الدعاء الذي في الفاتحة من وجهٍ، والله أعلم.
سورة البقرة
بدأ الله ــ ﷿ ــ بذكر القرآن، ووصفه بأنه لا ريب فيه وأنه هدى؛ فاقتضى ذلك قسمة الناس إلى قسمين: مهتدٍ، وغير مهتدٍ.
فقدَّم ﷾ المهتدين لفضلهم، وبيَّن صفتهم إلى تمام خمس آيات، ختمها ببيان ثوابهم إجمالًا، وهو قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [٥].
ثم عقبه بذكر غير المهتدين، وقسمهم إلى قسمين: كافر صريح، ومنافق.
وقدَّم الكافر لأمرين:
_________
(^١) كذا في الأصل. وقد افتتح المؤلف عددًا من رسائله هكذا.
7 / 139
الأول: أنه أقل شرًّا من المنافق.
والثاني: لأنه في الطرف الآخر من الأقسام، والمنافق مذبذب، كما تقول: "طويل، وقصير، ومتوسط".
فبيَّن تعالى صفة الكافر في آيتين (٦ - ٧) ختمهما ببيان عقوبتهم إجمالًا، وهو قوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [٧].
ثم عقَّبه بذكر المنافقين، فذكر وصفهم في ثلاث آيات (٨ - ١٠) ذكر في آخرها عقوبتهم إجمالًا، وهو قوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [١٠].
وخُصَّ الأولون بـ ﴿عَظِيمٌ﴾ لعظمة ذنبهم ظاهرًا لمجاهرتهم. والمنافقون بـ ﴿أَلِيمٌ﴾ لأنّ كفرهم غير عظيم في الصورة، ولكنه أشد ضررًا وإيذاءً، [٢/ب] وذلك يناسب الإيلام.
ولما كان من المنافقين ذنبان: أحدهما الكفر الذي هو التكذيب، وثانيهما: الكذب= بيَّن الله تعالى أنهم يستحقون على كل منهما عذابًا أليمًا. فنبَّه على الأول بقوله: ﴿بِمَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ﴾ على قراءة من قرأ بالتشديد، وعلى الثاني بقوله: ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [١٠] على قراءة من قرأ بالتخفيف (^١).
ولما كان كذبهم لم يتقدم منه إلا قولهم: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ [٨]، وقد أراد
_________
(^١) قرأ الكوفيون من السبعة بالتخفيف، والباقون منهم بالتشديد. انظر: "الإقناع" في القراءات السبع (٥٩٧).
7 / 140
الله ﷿ بقوله: ﴿يَكْذِبُونَ﴾ [١٠] ما هو أعمُّ من ذلك، وقد تقدم في وصفهم: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [٩]، وهذا مجمل= اقتضت الحكمة أن يفصل
كذبهم ومخادعتهم، خصوصًا والسورة مدنية، وفتنة المنافقين بالمدينة، وذلك يقتضي الإفاضة في شأنهم.
فبيَّن الله ﷿ كذبهم ومخادعتهم، وأفاض في شأنهم إلى تمام عشرين آية من السورة (١١ - ٢٠).
ثم وجَّه الله ﷿ الخطاب إلى عامة الناس ــ الشامل للثلاث الفرق ــ بالأمر بعبادته، أي: وحده، كما يدل عليه السياق، ونبهنا على حكمة عدم التصريح به في الفوائد (^١).
وبيَّن مقتضيات إفراده بالعبادة في آيتي (٢١ - ٢٢)، ثم قال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ..﴾ [٢٣ - ٢٤]. وهذا مع اتصاله بما قبله مرتبط بأول السورة: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [١ - ٢].
[٣/أ] وهذا من عجائب القرآن: تجد السورة كالشجرة لها أصل ولها فروع، فإذا طال فرع من الفروع، وانتهى منه، وأراد الشروع في فرعٍ آخر= لم يكتف بالرجوع إلى الأصل، بل يربط أول الفرع الثاني بآخر الفرع الأول؛ فيكون الارتباط من جهتين.
ولما جاء في آية (٢٤): ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾، وكان فيه تفصيل لما أجمل سابقًا من عذاب الكفار والمنافقين
_________
(^١) لم نجدها في الأصل.
7 / 141
في قوله: ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ = اقتضى الحال أن يفصل أيضًا نعيم
المؤمنين الذي أجمل بقوله في أول السورة: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ففصله في آية (٢٥)، وذكر فيها ثمر الجنة وتشابهه والأزواج المطهرة؛ ليرتبط بما بعده من قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ...﴾ [آيتي: ٢٦ - ٢٧]؛ [٣/ب] فإن الثمرة وتشابهها، والأزواج وطهارتها، يصدق عليهما أنهما مثل لنعيم الجنة.
قال تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا﴾ [الرعد: ٣٥].
وقال تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى﴾ [محمد: ١٥].
هذا مع أن قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا﴾ موجه بالذات إلى إنكار المنافقين المثلين المتقدمين فيهم في أول السورة ــ كما جاء عن ابن مسعود وجماعة من الصحابة (^١) ــ ولكن لم يكتف بهذا الربط لما قدمنا.
وعبر في آية (٢٦) بقوله: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ولم يقل: (نافقوا)، وإن كان السياق يبين أنهم المراد؛ لأمرين:
الأول: الإشارة إلى أن الكفار المصرحين قد يشاركون المنافقين في ذلك.
_________
(^١) انظر: "تفسير الطبري" (شاكر ١/ ٣٩٨).
7 / 142
الثاني: أن يربط الآيتين بآية: (٢٨)، وهي قوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾، ولم يكتف بارتباطها بما قبل ذلك لما تقدم.
وقال في هذه الآية: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ...﴾، اختار هذه الأوصاف ليربط الآية [٤/أ] بآية (٢٩) قوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ...﴾ [٢٩]، مع أن هذه الآية مرتبطة بقوله في آية (٢٢): ﴿جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ...﴾ [٣٠]، وهذا مرتبط بما قبله من حيث خلق الناس، وخلق السماء والأرض.
ثم أفاض في قصة خلق آدم إلى آية: (٣٩)، وجاء في آيتي (٣٨ - ٣٩) ما هو من تمام القصة، ويصلح للارتباط بما بعده، وهو قوله: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
وبعده: ﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ... (٤٠) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ [٤٠ - ٤١]. وارتباط ذلك بما قبله ظاهر؛ فإن بني إسرائيل ممن دخل تحت قسم الكفار الماضي أول السورة ثم المتكرر ــ كما بينَّا ــ إلى أن ذكر متصلًا بهذه الآية.
7 / 143
وأيضًا، فقد مر أول السورة في صفة المتقين: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [٤].
وأيضًا، فإن في صفة الجنة ما يتعلق بأهل الكتاب، فإنهم زعموا أن ليس فيها أكل ولا شرب ولا نكاح.
وكذا في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا ...﴾ [٢٦] إلخ؛ ففي "إنجيل متى" إصحاح (١٣): "١٠: فتقدم التلاميذ وقالوا له: لماذا تكلمهم بأمثال؟ ١١: فأجاب، وقال: لأنه قد أُعطي لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السماوات، وأما لأولئك فلم يُعطَ. ١٢: فإنَّ من له سيُعطى ويزاد، وأما من ليس له فالذي عنده سيؤخذ منه".
وكذا في قصة خلق آدم ما يتعلق بأهل الكتاب، فإن القصة في كتابهم، وقد بدَّلوا فيها وحرَّفوا، ففيما تقدم تصديق القرآن ما معهم، مع إصلاح ما ضلُّوا عنه.
ومع هذا، فقوله هنا: ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ﴾ في وصف الكتاب؛ فهو مرتبط بأول السورة.
وهنا احتمالان:
الأول: أن يكون قسم الكفار المتقدم شاملًا لأهل الكتاب، ثم خصَّهم بذكر هنا وفيما سيأتي، لما يختصُّ بهم من العبر.
الثاني: أن يكون المراد بالكفار سابقًا المشركون خاصة، وأخَّر ذكر أهل الكتاب إلى هنا.
7 / 144
وعلى كل حال، فقد تمت الأقسام العقلية بالنسبة إلى الإيمان بالكتاب، وهي أربعة:
مصدق ظاهرًا وباطنًا، وهم المؤمنون.
مرتاب ظاهرًا وباطنًا، وهم المشركون.
مصدق ظاهرًا فقط، وهم المنافقون.
مصدق باطنًا فقط، وهم أهل الكتاب. والله أعلم.
ثم أفاض في شأن بني إسرائيل، [٤/ب] والارتباط ظاهر، إلى آية (١٠٣).
وأما آية (١٠٤): ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا﴾ فارتباطها ببني إسرائيل أن العرب تستعمل هذه الكلمة بمعنى: انظرنا، وهي بلسان اليهود شَتْم؛ فكان الصحابة ربما خاطبوا النبي ﵌ بها، بمعنى"انظرنا"، فاهتبلها اليهود، فكانوا يخاطبونه هم بها مُسرِّين في أنفسهم معنى الشتم، فنهى الله تعالى المؤمنين عن مخاطبة النبي ﵌ بها أصلًا؛ ليقطع دسيسة اليهود.
آية (١٠٥) ارتباطها بأهل الكتاب ظاهر. وأما بالآية قبلها فلأن إنزال الله تعالى الأمر بترك ﴿رَاعِنَا﴾ واستبدالها بـ ﴿انْظُرْنَا﴾ خير أنزله الله، ولا بد أن يكرهه أهل الكتاب لحسمه دسيستهم.
ولما كان الحكم عامًّا ضمَّ إلى أهل الكتاب المشركين.
وفي الآية تمهيد لنسخ القبلة؛ فإن استقبال الكعبة من الخير والرحمة الذي اختص الله تعالى به المسلمين.
[٥/أ] (١٠٦) قوله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ
7 / 145
مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾: ارتباطها بالذي قبلها من
جهة أن المنع من قول ﴿رَاعِنَا﴾ نسخ في الجملة، فإن قولها كان جائزًا قبل ذلك؛ بدليل إقرار النبي ﵌ عليها مدة، ثم نسخ ذلك بالآية المتقدمة (١٠٤)، وذلك لمَّا اتخذها اليهود وصلة إلى الاستهزاء.
ولها ارتباط بالآية التي قبلها؛ لما قدمنا أن فيها تمهيدًا لنسخ القبلة.
ولها تعلق بالفرع، وهو شأن بني إسرائيل، من حيث إن فيها ردًّا عليهم لأنهم ينكرون النسخ.
وهي مع ذلك متعلقة بأصل السورة، قوله تعالى: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [١ - ٢].
وفيها تمهيد لما يأتي من نسخ القبلة، وجعلت قبل ذلك بمدة حتى لا ينزل نسخ القبلة إلا وقد استقر في نفوس المسلمين حكم النسخ، واطمأنوا به، فلا يرد عليهم نسخ القبلة بغتة، فينفروا منه، والله أعلم.
فأما تمام الآية، وهو قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، فالذي يحضرني أنه يظهر أن النبي ﵌ وأصحابه ﵃ شقَّ عليهم النسخ؛ لأنه يفتح للكفار من أهل الكتاب والمشركين باب الشغب والطعن في القرآن، كما يشير إليه ربط الآية بأول السورة، وربما يكون ذلك سببًا لامتناع جماعة عن الإسلام، أو ارتداد جماعة من المسلمين. فسلَّى الله ﷿ رسوله ﵌[٥/ب] بقوله: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، أي: فهو يقدر على هداية الناس جميعًا، ويقدر على منعهم من الشغب، ويقدر على إقامة
7 / 146
البرهان على بطلان شغبهم، ويقدر على دفع ما خشيته من كون النسخ ربما يمنع
جماعة من الإسلام أو حمل بعض المسلمين على الارتداد.
وأكد ذلك بآية (١٠٧)، وقال في آخرها: ﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾. علاقتها بما قبلها أن من جملة ما خشوه أن يشغب عليهم الكفار، وأن يمتنع جماعة من الإسلام، ولو أسلموا لكثر المسلمون وتقوَّوا بهم؛ وأن يرتدّ بعض المسلمين، فيقلَّ المسلمون ويذلُّوا. فأخبرهم تعالى أنه ليس لهم ولي ولا نصير غيره، وإذًا فلا معنى لخشيتهم أن لا يكثر أولياؤهم وأنصارهم.
وعبَّر بضمير الجمع في هذا على معنى: لك ولأصحابك. وبذلك تتصل الآية بما بعدها.
آية (١٠٨): ﴿أَمْ تُرِيدُونَ﴾ خطابٌ للصحابة لتضمن قوله: ﴿لَكُمْ﴾ إياهم.
ففي الآية هذه اللطيفة، وهو أنه بخطاب واحد وجَّهَ ما يناسب حال النبي ﵌ إليه، وما يناسب حاله وحال الصحابة إليهم جميعًا، وما يناسب أصحابه فقط إليهم فقط، وميَّز بين الأخيرين بالقرائن.
﴿أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ﴾ تشبيه السؤال بالسؤال في مطلق كون كل منهما سؤالًا فيه جرأة على الله تعالى وعلى رسوله ﵌. فالسؤال الذي أنكره الله على المسلمين يتناول أن [٦/أ] يسألوه أن لا يقع في الشرع نسخ في القرآن ولا في الأحكام؛ لخشيتهم الأمور السابقة. وبهذا ظهر علاقة الآية بما قبلها.
7 / 147
وقوله تعالى في آخرها: ﴿وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ مرتبط بما قبله من جهتين:
الأولى: الإشارة إلى أن الإصرار على السؤال المذكور بعد أن نهى الله تعالى عنه كفر.
والثاني: تحذير الضعفاء أن يقع في أنفسهم ارتياب بسبب النسخ.
(١٠٩) ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا﴾ هذا يبين ما قدمنا أن الكفار طعنوا في القرآن والإسلام بسبب النسخ ليردُّوا المسلمين عن دينهم.
وإخبار الله ﷿ المسلمين بهذا يحملهم على بغض أهل الكتاب وحب الانتقام منهم، فعقبه تعالى بقوله: ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، فيقدر على أن يهديهم أو يهلكهم أو يسلطكم عليهم.
(١١٠) ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ [٦/ب] مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ ارتباطها بما قبلها أن المعنى ــ والله أعلم ــ: أعرضوا عن أهل الكتاب، واشتغلوا عنهم بما كُلِّفتم؛ فإن اشتغالكم بذلك ــ مع ما فيه من الخير الذاتي ــ يغيظ أهل الكتاب ويحزنهم؛ لأنهم يكرهون لكم الخير، ويودون أن يردوكم عن دينكم، كما تقدم في آيتي (١٠٥) و(١٠٩).
7 / 148
وقوله: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ ...﴾ (^١) تمهيد للرد على أهل الكتاب فيما ادعوه في آية (١١١). وبذلك علم الربط.
أما (١١٢) ظاهر (^٢).
(١١٣) ارتباطها بما قبلها ظاهر أيضًا، وبيَّن بها اختلاف اليهود والنصارى تمهيدًا لما يأتي في شأن القبلة؛ فإن القبلة مما اختلفوا فيه، والمراد بالذين لا يعلمون: المشركون.
(١١٤) ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ﴾ [٧/أ] ارتباطها بما قبلها أننا قدمنا أن في الآية التي قبلها إشارة إلى شأن القبلة، وذكر المساجد في هذه الآية إشارة إلى المسجد الحرام. فقد ثبت أن استقباله وحجّه من شريعة إبراهيم وموسى، ولكن اليهود والنصارى لكونهم بني إسحاق حسدوا بني أخيه إسماعيل، فحرفوا آيات التوراة وبدَّلوها، وبذلك منعوا قومهم أن يحجوه فيذكروا الله فيه، وأن يستقبلوه. وسعوا في خرابه، أي بإنكارهم أن يكون له فضل أو مزية.
وَبَّخَهم سبحانه على جحدهم فضيلة المسجد الحرام، وحجه، واستقباله، بإشارة لا يتحققها إلا من قرأ التوراة، كرمًا منه تعالى؛ للمعنى الذي تقدم في آية (١٠٩) من الأمر بالعفو عنهم والصفح.
_________
(^١) في الأصل: "وما تعملوا من خير ... "، وهو سهو.
(^٢) كذا في الأصل دون فاء الجواب. وانظر: "شواهد التوضيح والتصحيح" لابن مالك (١٣٦).
7 / 149
وقد بيَّن الله تعالى هذا في عدة آيات، منها قوله: ﴿... وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [المائدة: ١].
ومع هذا فالآية تشمل المشركين في إخراج المسلمين من مكة ومنعهم المسجد، وقد نبَّه على ذلك بذكر المشركين في الآية التي قبلها كما مر، والله أعلم.
فلما أمكن أن يقول أهل الكتاب، أو من قرأ التوراة من غيرهم، أو من أوغل في تدبر القرآن: فما بال محمد وأصحابه مع هذا يستقبل بيت المقدس؟ = [٧/ب] قال تعالى:
آية (١١٥): ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ أي: فاستقبال موضع مخصوص ليس أمرًا مقصودًا لذاته، وإنما يتعيَّن الموضع المخصوص إذا عيَّنه الله ﷿، فتجب طاعته. وقد أمر محمدًا وأصحابه باستقبال بيت المقدس لحكمةٍ يعلمها، فكان هو قبلتهم حينئذ طاعة لله تعالى، وذلك لا يقدح في كون الكعبة هي القبلة الأصلية. وبهذا علم الارتباط.
ويؤيد التفسير المذكور آية (١٤٢) من هذه السورة.
(١١٦) ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾: القائلون هم اليهود والنصارى في عزير، والنصارى في عيسى، والمشركون في الملائكة.
وقد مر ذكر الثلاث الفرق في آية (١١٣)؛ فإن المراد بالذين لا يعلمون: المشركون. والله أعلم. وبهذا علم الارتباط.
7 / 150
(١١٧) ظاهر.
(١١٨) المراد بالذين لا يعلمون: المشركون، كما تقدم، وبالذين من قبلهم: اليهود، وكذا النصارى. والله أعلم. وبهذا علم الارتباط.
(١١٩) الآية ردٌّ عليهم في قولهم في الآية السابقة، وإرشادٌ للنبي ﵌ أن لا يحرص على إحداث آية، ومثله في القرآن كثير، والارتباط ظاهر.
[٨/أ] (١٢٠) ظاهر.
(١٢١) ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ...﴾ ارتباطها بما قبلها ظاهر، والآية إشارة إلى كتمانهم شأن الكعبة ومحمد ﵌.
(١٢٢) و(١٢٣) مناشدة لأهل الكتاب أن لا يكتموا شأن الكعبة ومحمد ﵌.
(١٢٣) إلى (١٤١): بعد أن لاطفهم الله ﷿ فيما تقدم بأن عاتبهم في شأن ما يعلمونه في الكعبة ومحمد ﵌ بكلام لا يكاد يفهمه غيرهم، كما هي الطريقة المحمودة في النصيحة أن تكون سرًّا= لم ينجع ذلك فيهم، فتعين أن يصارحهم ويكشف الغطاء عن حقيقة الأمر؛ فكان ذلك في هذه الآية وما بعدها. فظهر تمام الارتباط بحمد الله تعالى.
وذكر الفاضل المعلِّم عبد الحميد الفراهي في كتابه "الرأي الصحيح في مَن هو الذبيح" ــ وهو كتاب نفيس ــ أن في الآيات إشارة إلى أن الذبيح هو إسماعيل ﵇، [٨/ب] وأن الله تعالى لم يصرِّح بذلك عفوًا عن أهل الكتاب ــ كما قدمناه ــ وكراهية أن يؤدي التصريح به إلى فتح باب المناقشة في أمرٍ غيرُه أهمُّ منه. انظر التفصيل في الكتاب المذكور (^١).
_________
(^١) (ص ٩٠ - ١٠٥).
7 / 151
(١٤٢) ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾: ارتباطها بما قبلها ظاهر مما ذكرناه، فقد مهَّد الله تعالى للقبلة فيما قبل ــ ونبهنا على ذلك في آية (١٠٥) و(١٠٦) وغير ذلك بما ذكرناه ــ إلى أن أتم التمهيد بقصة إبراهيم ﵇.
وقوله في الآية: ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ظاهر في أنَّ الكعبة هي القبلة الأصلية.
وسيأتي في هذه السورة، وفي هذا السياق، عدة أحكام مما بدله أهل الكتاب، أو اختلفوا فيه، أو كان مشدَّدًا عليهم وخُفِّف عن هذه الأمة، أو نحو ذلك (^١).
وربما يذكر مع بعضها ما يناسبه مما بدَّله المشركون من شريعة إبراهيم ﵇ (^٢).
وذكر في أوائل هذا الباب هذه الجملة: ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [١٤٢]، وفي آخره: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [٢١٣]. وهذا كالتفصيل لقوله أول السورة: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [٢].
وبهذا علم ارتباط الفاتحة بسورة البقرة، وعلم صحة تفسير المغضوب
_________
(^١) انظر تحت الآيات (١٧٨، ١٨٣، ١٨٩).
(^٢) انظر تحت الآيات (١٨٩ - ٢٠٣).
7 / 152
عليهم والضالين باليهود والنصارى. والله أعلم.
(١٤٣) أولها بيان لاستحقاق هذه الأمة الهداية إلى الصراط المستقيم، وآخرها بيان لحكمة أمر النبي ﵌ أولًا باستقبال بيت المقدس، مع أن الكعبة هي القبلة الأصلية.
وقوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ أي: ومنه صلاتكم إلى بيت المقدس.
(١٤٤) الحكم باستقبال الكعبة، وفضيحة أهل الكتاب [٩/أ] بأنهم يعلمون أنه الحق.
(١٤٥) الارتباط ظاهرٌ.
(١٤٦) إيضاح لمعرفة أهل الكتاب بأن استقبال الكعبة هو الحق.
(١٤٧) ظاهرٌ.
(١٤٨) يريد ــ والله أعلم ــ: ﴿وَلِكُلٍّ﴾ من المسلمين ﴿وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ في استقبال المسجد الحرام، فالشرقيُّ وجهته الغرب، والغربيُّ وجهته الشرق، وهكذا، فأنتم سواء في استقبال المسجد الحرام، وتختلفون بالأعمال، ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾.
فتضمن هذا أمرين:
الأول: تفرقهم في البلاد.
الثاني: اجتماعهم في استقبال موضعٍ واحد.
7 / 153
فقال تعالى: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ أي ــ والله أعلم ــ:
أنكم متفرقون في البلاد، وقد جمعكم بتوجهكم إلى المسجد الحرام، وسيجمعكم بذواتكم يوم القيامة ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
وذكر الجمع الأخروي ههنا لمناسبة التفرق والجمع الحكمي وللحض على استباق الخيرات، فظهر الارتباط في الآية.
(١٤٩) و(١٥٠) الارتباط ظاهرٌ.
[٩/ب] (١٥١) أي ــ والله أعلم ــ جعلنا لكم قبلة في بلادكم ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾ بلسانكم.
(١٥٢) ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ أي: فإن النعم المتقدمة تستدعي منكم ذكري وشكري، على أن ذكركم وشكركم لا أخليه عن ثوابٍ جديد، ولا أكتفي بكونه لي في مقابل تلك النعم.
بيَّن هذا بقوله: ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾، واستغنى به وبآيات آخر عن أن يقول: "واشكروني أزدكم".
(١٥٣) يريد ــ والله أعلم ــ: استعينوا على الذكر والشكر المأمور بهما في الآية السابقة. وفي الحديث أنه ﵌ قال لمعاذ: "إني أحب لك ما أحب لنفسي، فلا تترك أن تقول عند كل صلاة: اللهم أعِنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" (^١) أو كما قال.
_________
(^١) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في الاستغفار (١٥٢٢)، والنسائي في كتاب السهو، باب نوع آخر من الدعاء (١٣٠٣)، وأحمد (٣٦/ ٤٣٠، ٤٤٣) برقم (٢٢١١٩، ٢٢١٢٥)، والحاكم (١٠١٠) وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
7 / 154
ومناسبته للآية ظاهر (^١).
فأما الاستعانة بالصبر فظاهر، وأما الاستعانة بالصلاة فلأن من شرائطها وأركانها ما يساعد على ذلك. وأيضًا، فقد أخبر الله تعالى أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.
ولما أمرهم في هذه الآية بالصبر، وأخبر أنه مع الصابرين، ضرب لهم مثلًا لتلك المعية، وجعل المثل في أشرف مواطن الصبر وأشرف المعيَّات، وهو آية (١٥٤)، فالربط ظاهر.
(١٥٥) فصل فيها مواطن الصبر، وبيَّن فيها وفي آية (١٥٦) صفة الصبر الظاهرة، وهي الاسترجاع [١٠/أ] عند المصيبة.
وليس المراد ــ والله أعلم ــ قول هذه الكلمة مجرَّدًا، بل قولها مع استحضار معناها ورسوخه في القلب، وأن لا يعمل ما يخالفه، إلا ما أذن فيه الشرع مما يغلب الإنسان من البكاء بغير نَوح ولا صوت ولا شكوى.
(١٥٧) ذكر فيها أجر الصابرين.
(١٥٨) قد مضى ذكر استقبال البيت الحرام، وآخر آية فيها ذكره (١٥٠). ثم فرع عن ذلك الامتنان بهذه النعمة، وذكر نعمٍ أخرى تشابهها وتتصل بها. ثم نبههم على شكر ذلك، وبيَّن لهم طريق الشكر، على حسب ما قدمنا. وفي هذه الآية (١٥٨) رجع إلى ما يناسب استقبال البيت ويتصل
_________
(^١) كذا في الأصل.
7 / 155
به ويشبهه في كتمان بني إسرائيل إياه، وتبديلهم له، وهدى الله سبحانه المسلمين إلى صراط
مستقيم. راجع الكلام على آية (٢٤٢). وهذا الأمر هو شأن الصفا والمروة. وقد حقق هذا البحث المعلِّم عبد الحميد الفراهي في كتاب "الرأي الصحيح"، فانظره (^١).
وقد مر قبل آيات ذكر إبراهيم ﵇، وفيها ذكر المناسك.
(١٥٩) ذكر فيها إثم الذين يكتمون ما أنزل من البينات والهدى. وعلاقتها بما قبلها ما قدمنا أن أمر الصفا والمروة مما كتموه.
[١٠/ب] (١٦٠) تتمة ما قبلها.
(١٦١) هي في معنى التعليل للآيتين قبلها؛ فإن في اللتين قبلها لعن الكاتمين لما أنزل إلا من تاب، وفي هذه أن من كفر ولم يتب بأن مات كافرًا استحق اللعن والخلود في العذاب.
فكأنه قال: إن الكتمان المذكور كفرٌ، والإصرار عليه إلى الموت موت على الكفر، ومن كفر ومات على الكفر فهذا جزاؤه.
(١٦٢) تتمة لما قبلها.
(١٦٣) علاقتها بما قبلها أن الشر كفرٌ، وقد مضى فيما قبلها ذكر الكفر وجزائه، وأبطل في هذه بعض أنواع الكفر، وهو الشرك.
ولها علاقة أمتن من هذه، وهو الإشارة إلى بني إسرائيل بأنهم لم يكتفوا من الكفر بكتمان ما أنزل الله، بل كفروا أيضًا بالشرك.
_________
(^١) انظر: "الرأي الصحيح في من هو الذبيح" (ص ٥٤، ٩٧).
7 / 156
وقد بين تعالى هذا المعنى في آية (١٦٥) أي: عقب هذه الآية وتتمتها.
(١٦٤) تتمة للتي قبلها.
(١٦٥) بيان لنوع من الشرك، وهو شرك بني إسرائيل، كما صرح به تعالى في قوله: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣١]. [١١/أ] وقال تعالى لرسوله أن يقول لهم: ﴿تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٦٤].
وفسَّر الصحابة وغيرهم هذه الآية ــ أعني (١٦٥) من البقرة ــ بمثل تفسير الآيتين المذكورتين: أن المراد بالأنداد المتبوعون من البشر، المطاعون في شرع الدين، ولا ينبغي أن يطاع فيه إلا الله تعالى (^١). وجاء عن النبي ﵌ تفسير اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابًا بنحو ذلك (^٢).
ويدل عليه آية (١٦٦) فإنها مبينة أن الأنداد هم المتبوعون.
وكذا آية (١٦٧)؛ فإنها تتمة للتي قبلها.
(١٦٨) قد تبين أنّ في الآيات التي قبلها بيان أن طاعة غير الله تعالى في شرع الدين شرك. وفي هذه الآية النهي عن نوع من ذلك وقع فيه العرب وغيرهم وبدَّلوا شرع إبراهيم، كما بدل أهل الكتاب ما في الكتاب؛ وهو: تحريم ما أحل الله تعالى بغير سلطانٍ منه؛ وبيان أن ذلك من اتباع خطوات
_________
(^١) انظر: "تفسير الطبري" (شاكر ٣/ ٢٨٠).
(^٢) انظر: "تفسير الطبري" (شاكر ١٤/ ٢٠٩ - ٢١١).
7 / 157