وفي الواقع، ثمة تغيرات واضحة كثيرة جرت على مدار نصف القرن الأخير أو نحو ذلك ، ربما تفسر جيدا سبب حدوث ارتفاع في معدلات الجريمة. على سبيل المثال، أصبح الناس أكثر تنقلا بكثير، وزادت احتمالات بقاء المنازل خالية أثناء ساعات النهار، وأصبح الناس أقل معرفة بهوية جيرانهم وما هم بصدد الإقدام عليه. والمجتمعات المحلية الشديدة الترابط فعالة في إيقاف الجريمة وجنوح القصر، لكن اختفاء هذه المجتمعات مرتبط بتغير الظروف الاقتصادية أكثر من حدوث انخفاض في الإيمان بالدين وعدم اتباع تعاليمه.
ومن ثم، لا يتضح بأي حال من الأحوال أن تراجع الإيمان بالدين هو السبب وراء ارتفاع معدلات الجرائم؛ فمجرد وقوع أمرين في الوقت نفسه لا يقيم علاقة سببية بينهما (وبافتراضك غير ذلك سترتكب مغالطة «التعاقب الزمني»).
نظرة عن كثب على الأدلة تشير بقوة إلى أن تراجع الإيمان بالدين «ليس» السبب الرئيسي في الزيادة في هذه الاعتلالات الاجتماعية. فعندما نلقي نظرة على ديمقراطيات العالم المتقدم، نجد أن «أكثر» الديمقراطيات تدينا - وفيها بالطبع الولايات المتحدة (حيث يقول 43٪ من مواطنيها إنهم يرتادون الكنيسة أسبوعيا) - عادة ما يكون لديها «أعلى» معدلات جرائم القتل والأمراض المنقولة جنسيا والإجهاض وغيرها من مقاييس الحكم على صحة المجتمع، في حين أن أقل البلدان تدينا، مثل كندا واليابان والسويد، من بين البلدان التي تتمتع بانخفاض تلك المعدلات. إن كان انخفاض معدلات التدين هو السبب الرئيسي وراء تلك الاعتلالات الاجتماعية، فلنا أن نتوقع من البلدان الأقل تدينا الآن أن تعاني من أشد المشاكل. إلا أن العكس هو الصحيح.
ثمة قليل من الأدلة التي تؤيد الرأي القائل بأنه من دون الدين، تجازف الحضارات بانهيارها الأخلاقي، إضافة إلى أن ثمة أدلة كثيرة تعارضه. وكما يشير فرانسيس فوكوياما (المفكر الذي ذاع صيته أكثر ما ذاع لإعلانه «نهاية التاريخ»)، تقدم الصين مثالا مضادا مهما على الرأي القائل بأن النظام الأخلاقي يعتمد على الدين:
كانت القوة الثقافية المهيمنة على المجتمع الصيني التقليدي، بالتأكيد، هي الكونفوشيوسية، التي لا تعتبر دينا على الإطلاق، بل مذهب أخلاقي عقلاني علماني. وتاريخ الصين حافل بفترات الانحدار الأخلاقي والنهضة الأخلاقية، لكن لا يرتبط أي منها بوجه خاص بما يطلق عليه الغربي دينا. ومن الصعب أن نقيم الحجة التي مفادها أن مستويات الأخلاق العادية في آسيا أقل من مثيلاتها في أجزاء العالم التي يسيطر عليها دين غيبي.
في الواقع، ومن وجهة نظر الثقافات الأخرى، إن الافتراض الغربي القائل بأن الناس لن يكونوا أخيارا من دون الإله افتراض محير، وذلك كما يشير الكاتب والمخترع الصيني لين يوتانج في الاقتباس التالي:
بالنسبة إلى الغرب، يبدو من الصعب تخيل أنه يمكن الحفاظ على العلاقة الطيبة بين الإنسان وأخيه الإنسان (منظومة الأخلاق) من دون الالتفات إلى كيان أعلى؛ في حين أن الصينيين يندهشون من الاعتقاد بأن الناس لا يجب أو لا يستطيعون التصرف باحترام بعضهم تجاه البعض من دون التفكير في علاقاتهم غير المباشرة من خلال طرف ثالث.
كما يوجد كم كبير من الأدلة العلمية المتزايدة على أن منظومتنا الأخلاقية هي، إلى حد ما، نتاج تاريخنا الطبيعي التطوري؛ فهناك مواقف أخلاقية معينة موجودة في العالم بأسره، فعلى مستوى العالم، يمتلك الناس الأفكار البديهية الأخلاقية الأساسية ذاتها عن السرقة والكذب والقتل، بغض النظر إن كانوا دينيين أم لا. وكل مجتمع تقريبا منجذب إلى شيء من قبيل القاعدة الذهبية: عامل الناس كما تحب أن يعاملوك! لم؟
ثمة أدلة على أن أفكارنا البديهية الأخلاقية حول ما يجب علينا، أو ما لا يجب علينا، القيام به مكتوبة، جزئيا على الأقل، في جيناتنا قبل أن تكتب في أي كتاب ديني بوقت طويل (من أجل الاطلاع على تلك الأدلة ونقاشات مفيدة لها، أنصح بكتاب «أصول الفضيلة» لصاحبه مات ريدلي، و«الحيوان الأخلاقي» لمؤلفه روبرت رايت، و«تطور منظومة الأخلاق» لريتشارد جويس). لم يخلق الدين منظومة الأخلاق، بل قامت الأديان فحسب بتقنين منظومة الأخلاق الأساسية المجبول عليها البشر من الأساس. فباعثنا الأول للتصرف على نحو أخلاقي يبدو طبيعيا وغريزيا، وليس مكتسبا عن طريق التعرض للدين. (6) الآثار الاجتماعية الإيجابية للدين
هناك قدر بسيط من الشك يعتري القول بأن الدين قد ساعد بعض الناس على تغيير حياتهم إلى الأفضل. لقد سمعت قصصا عن سجناء «عرفوا الإله»؛ ونتيجة لذلك توقفوا عن ارتكاب الجرائم وبدءوا في مساعدة الآخرين. ولا شك أن التعرض للدين له تأثيرات قوية على سلوك بعض الأشخاص، ولا سيما الأفراد الذين عاشوا حياة بالغة الاضطراب والعبث.
صفحة غير معروفة