كانت الباخرة تمر بقرب الساحل اللبناني في تلك الساعة الهادئة الجميلة، ساعة الصباح الحلوة المطمئنة، تبدو فيها الطبيعة أغنية عذبة وأنشودة منسجمة، وتبدو الأشياء كالطيف وقد استحالت لونا ونغما وسحرا.
كان كل هذا يساعد في اتساع خيال الفتى المتهوس؛ فإذا هو يبني منها قصورا خيالية في إسبانيا وباريس.
وفجأة يحس بيد تربت على كتفه وتقطع عليه أحلامه، فيلتفت كي يتعرف إلى صاحبها، فإذا به يرى أحد مواطنيه، وهو وإن لم تكن تشده إليه في الوطن صداقة متينة ، إنما كان يعرفه، وهي عادة أبناء الشرق العربي الذين يحبون بعضهم عن بعد، وعندما يتركون أرض الوطن، ولكنهم ما إن يعودوا ويسكنوا أرضه حتى تأخذهم التفرقة ويفترسهم العداء والحسد، وتنفخ فيما بينهم ريح الانقسام والبغضاء.
وكان هذا المواطن من الذين عرفوا بالمهارة والنباهة في جلب الثروة عن أي طريق كانت، وله في هذا الميدان يد طولى وباع أطول؛ فهو لا يرى في كل ما تقع عينه عليه من أشياء سوى ناحية المنفعة والاستثمار، فهو عريق في هذه الخلة، ممزوج دمه بهذه الغريزة، وبعبارة أوضح، إن بينه وبين الجمال والفن شقة بعيدة، وواديا سحيقا، وقد اشتهر عنه أنه من أهل الاختصاص في كافة مهن التهريب، وممن له فهم عميق في زراعة الحشيش وتصريفه ... ولكن ذلك كله لم يمنعه من أن يتقدم من مواطنه الشاب الذي عرف عنه حبه للفن وأن يحييه ويتحدث إليه بعض الوقت، لا سيما وهو أيضا وحيد على ظهر السفينة، وقد أحب مداعبته، لا سيما وهو يعرف حبه الشديد للطبيعة وغرامه بجمالها، فقال له بخبث، ليثير إعجابه ويطلق لسانه ويستدرجه في الكلام عما يشاهده من المناظر الرائعة، لينتهي به للكلام عن الفن فيسخر منه بعض الوقت، فسأله: «مناظر مدهشة حقا، ما هذا الجمال يا عزيزي؟» فراح سليم الطيب يصف إحساسه بها بسذاجة وتأثر عميق، طبعا بعد أن مزجها بكمية من الفن الذي ما كان سليم لينسى ذكره وعلاقته بالجمال، وبالطبع عرض بعض نظرياته التي سبق وذكرنا عنها شيئا، وقد أحب تاجرنا الخبيث أن يثير الفتى وأن «يزرك» له فقال له: «ولكن هل يمكننا يا عزيزي، أن نعيش من الخيال والجمال والفن فقط؟ ألا ترى أن الجمال لا يشبع البطن ولا يروي العطش؟ ثم ألا ترى أن هنالك وسائل أخرى توحي الخيال وتلهم وتسرح في أجواء قد تجعل الإنسان يبلغ بخياله عرش الملوك؟»
فأدرك سليم رغم صفاء سريرته ما يرمي إليه صاحبه، فهو لم يكن ضعيف النباهة ولا قليل الذكاء؛ لأن طهارة القلب لا تنفي الذكاء، كما أن الشقاوة لا ترافق دائما الذكاء! لذلك التفت إلى محدثه قائلا: «إن الفن والجمال يا صديقي لا يعنيان قط الخيال والشرود والجلوس تحت شجرة ظليلة، والاسترسال للأحلام الذهبية التي لا طائل تحتها، وليس يعني قط أنه يملأ البطن، فكل شيء له دوره في الحياة، فالإنسان مخلوق من جسد وروح، وهو بحاجة لأن يغذيهما ليكون إنسانا بالمعنى الصحيح، وإن الجمال يظهر حقيقة الإنسان ومؤهلاته للحياة والعمل لها، كما أن الفن هو الذي يرسم له مظاهر هذه الحياة وتصاميمها للانتقال بها من الدور النظري إلى العملي على أسس منطقية جميلة، تنقله من مراحل متدرجة وتفهمه في الدرجة الأولى قيمة الحياة وما تضمه من ثروات، وأنها جديرة بالعمل والجهد كما هي جديرة أن تحيا بكل نواحيها ومعانيها، وبالطبع متى عرف الإنسان هذا، عمل وأنتج وابتكر وأبدع، وهذا بالنهاية الاقتصاد والثروة التي تبحث عنها، ولكن هذه عن طريقها الصحيح وليس على هامشها، أما الخيال، خيالك الذي عنيت، فهذا سجن وفناء وانحلال، وهو ليس له علاقة ببحثنا، لندع يا صديقي الأموات في قبورهم ولننطلق في جوانب الحياة الطاهرة الخلاقة؛ لأن فيها من الجمال والبهاء ما يقربنا من الله ويحببنا إلى الناس أجمعين ...»
طبعا كانت هذه الكلمة كافية لرفيق السفر كي يتأدب ويلزم حده، فإذا به يدور بالحديث مع سليم عن الهدف من سفره والبلد الذي يقصده. وكان جرس الطعام أخذ يدوي في جوانب الباخرة؛ فأخذ الركاب يقصدون المائدة، ولحسن حظ صديقنا سليم أن صادف جلوس أحد الأساتذة الأجانب إلى جانبه، ومقابله جلس المواطن الكريم واسمه إبراهيم. والباخرة ذات رقعة محدودة تفرض على المسافرين شبه تعارف عائلي، فإذا بجار الأستاذ يتعارف وسليم وهذا قدم له إبراهيم، ويعرف كل منهم وجهة الآخر ومهمته، والثقافة تشد أهلها إلى بعض، وهي من نوع الأرواح، لذلك فهي سريعة الائتلاف، لا سيما بعد أن لاحظ الأستاذ سليما يرسم أحد المسافرين النهمين على المائدة، ويسجله بسرعة خاطفة، فأكبره وأجله، والمثل يقول: «الفن يفرض نفسه»، وماذا يرغب الناس من بعضهم غير تلك المواهب الخاصة التي تتجلي عند أفراد قلائل فيشركون الناس مجانا بها ويشيعون في نفوسهم اللذة والبهجة، فأخذ هذا الأجنبي يثني على موهبة سليم، وأحاطه بالكثير من التجلة والتقدير شاكرا للظروف التي أتاحت له فرصة التعارف، قائلا: «هنيئا لبلادك بك.» وكأن هذا التمجيد الذي جاء عفوا من هذا الأجنبي كان درسا صامتا للمواطن إبراهيم الذي أخذ يدرك عمليا أن هناك أمورا لا تشرى بالمال، بل هي أمور معنوية تميز بين الناس والحيوان، كما تميز بين الأمم.
وعلى هذا الأساس اشتدت الصداقة بين هذا الأجنبي وسليم، وقد باتا لا يفترقان، مما يثبت أن الروابط الفكرية هي أشد الروابط وأصدقها؛ لأنها مجردة عن كل غاية إلا غاية الحق والحب والخير.
وبعد مضي بضعة أيام في البحر بلغت السفينة مرفأ مرسيليا الشهير، وكان سليم قليل الخبرة في الأسفار ومشاكلها، كتدبير الفندق والمطعم والجمرك والانتقال في القطر الحديدية، وهي في الغرب ذات حركة عظيمة مدهشة يضيع فيها الغريب القليل الخبرة والمران، وقد لاحظ الأجنبي على سليم أثر هذا الارتباك وأحس عليه هذا التهيب، فطمأنه وخفف عنه؛ لأنه كان أكثر خبرة في الأسفار ومتاعبها.
وقد نشأ سليم على الوفاء ومحبة الواجب، فهرول نحو مواطنه إبراهيم ليودعه فلم ير له أثرا، خلا رائحة الحشيش الذي خلفها وراءه.
وكان الأستاذ الأجنبي سبق حسب العادة وقدم لسليم بطاقة تحمل اسمه وعنوانه في باريس، وهو يدعى مسيو «دورييه»، وبعد إكمال المعاملات غادرا السفينة معا، وما كاد يبلغ مسيو «دورييه» الرصيف حتى أخذ بتدبير البحارة ونقل الأمتعة للجمرك وملاحقتها بمهارة أذهلت سليما، ولم يفتر دقيقة عن شكر الله الذي هيأ له هذا الرفيق الغيور الذي أنقذه من هذه الحالة المضطربة الكثيرة الصعوبات.
صفحة غير معروفة