الإنسان والحيوان والآلة: إعادة تعريف مستمرة للطبيعة الإنسانية
تصانيف
كان ذلك بالطبع وصفا إجماليا بما أن نصفي المخ يعملان معا في تناغم ويتفاعلان بلا توقف. فالفن على سبيل المثال حتى إن كانت نقطة انطلاقه هي النصف الأيمن فهو يعود بصورة عرضية وضرورية إلى النصف الأيسر ليأخذ شكل التعبير اللغوي أو ليتم كتابته، وذلك عندما يتعلق الأمر بالأدب أو حتى الموسيقى. فلا ينبغي إذن أن نبالغ في الفصل بين النصف الأيمن والأيسر للمخ.
بيد أن هذه المعالجة المتشعبة التي يقوم بها العقل فائق القوة للمعلومة والتي تؤدي في آن واحد إلى محاكاة عقلانية العالم وإلى المحاكاة - التي لا تقل غرابة - للاعقلانية العالم الخيالي، قد تمثل الصفة الأكثر تمييزا للحيوان الإنساني. فننتقل هكذا من عمل عقلي يبرز أولا بفضل كمية معلوماته إلى صفات خاصة: العلم الدقيق والعالم الخيالي الذي لا حدود له وكلاهما مصدر للابتكار والإبداع وميزة لجنسنا على كوكب الأرض.
وفي مواجهة كل هذه الحجج التي تشير في مختلف فصول هذا الكتاب إلى التشابه الكبير جدا بين البشر والحيوانات، ما هي إذن السمة المميزة لجنسنا البشري؟ إن سمة «الروح» التي قد يمتلكها الإنسان وحده لا يمكن فصلها عن بعض الاعتبارات الدينية المحددة وهي بعض العادات الدينية التي تؤكد هذا الاختلاف الجوهري؛ لذا لا يمكن لهذه السمة أن تمثل إجابة شاملة. فتعتبر إذن الاختلافات المرتبطة بالقدرات الاستثنائية للعقل الإنساني أكثر إقناعا؛ شعور أكبر بالوقت والمستقبل، وولوج مميز إلى عالم الخيال، وحوار بين العقلاني (المعرفة) والخيالي وهو حوار قد يرجع أصله العصبي إلى الحوار بين نصفي المخ. وتؤدي هذه الاختلافات لدى الإنسان إلى توليد قدرات على الابتكار ترتبط بالقدرة على معالجة كمية هائلة من المعلومات، وهي قدرة تحول الكمي إلى النوعي الخاص بالإنسان؛ أي تحول الكم إلى الكيف، إلى طريقة عيش مختلفة تقوم على فكر معقد لا مثيل له على كوكب الأرض.
يعتبر كل ما يدفعنا إلى التفكير في الخصائص المميزة للإنسان، لا سيما نشاطه الثقافي الضخم الذي يتجلى في مجال العقلانية والعلم وكذلك في العالم الخيالي والفن، نتاجا لنشاط عقلي لا مثيل له، فيحول كمية المعلومات إلى نوعية ويمنح الإنسان «طريقة عيش» جديدة.
من وجهة نظري باعتباري عالم أحياء، يعد ظهور هذا العقل فائق القوة عبر الاصطفاء الدارويني أحد العناصر الأساسية للخصائص المميزة للإنسان حاليا مقارنة بالحيوانات. (3) الثقافة شكلت ذكاء الإنسان وقد تشكل مستقبلا ذكاء الآلات
يعتقد عدد من الباحثين في الذكاء الاصطناعي أنه من أجل ظهور الذكاء يكفي إعداد شبكة من الخلايا العصبية يكون لها سمات مشابهة للعقل الإنساني من حيث الحجم وعدد التوصيلات وسرعة النقل. فبسبب اطمئنانهم من ناحية التطور السريع لقوة أجهزة الكمبيوتر، هم مقتنعون بأن هذا العصر سيأتي خلال بضعة عقود على أقصى تقدير. ينبغي فقط أن ننتظر.
وكما رأينا يتميز الإنسان بالفعل عن سائر الحيوانات الأخرى بالحجم النسبي لعقله. ويتفق هذا النهج الكمي للذكاء مع نموذج «المذهب العقلي» الذي يفسر تطور الإنسان عبر المعطيات حول حجم جمجمة فصيلة القردة العليا المكتشفة. وفي هذا الإطار، يعتبر العقل هو الشرط المسبق اللازم لبناء أدوات ولتطوير الثقافة ولتكوين لغة خطاب، فلا يستحيل شيء على العقل الكبير.
يحكي علماء مختصون بعصور ما قبل التاريخ وعلماء أنثروبولوجيا قصة مختلفة.
5
فهم يرون أن التحول إلى الإنسان بدأ بالأقدام. فإن جمجمة طفل تونج التي اكتشفها دارت عام 1924 وهو ذو قدمين وعقل صغير، تعتبر من العناصر المؤيدة لهذا الافتراض. فربما دفعت بعض الظروف البيئية الخاصة أسلافنا القدماء إلى اختيار نمو طريقة خاصة للجسم: وهي السير منتصبا. ولكن ليس من السهل اكتساب مهارة السير على قدمين؛ لأنها تحد حقيقي لتشريح أجسام ذوات الأربع، فيحتاج الإنسان إلى حوالي مليونين أو ثلاثة ملايين عام لكي يطور تشريحا، ومهارات تسمح بقوام رأسي مريح ومستقر. فمن يعانون حتى يومنا هذا من آلام في الحوض أو الركبة أو الظهر يعرفون جيدا كم هو مناف للطبيعة السير واقفا. لقد اختار الإنسان السير منتصبا ثم تكيف الجسم تدريجيا.
صفحة غير معروفة