الإنسان والحيوان والآلة: إعادة تعريف مستمرة للطبيعة الإنسانية
تصانيف
فلن يكون ذلك هو المعنى الذي سنستخدمه. (2-1) المعلومة لدى الكائنات الحية
نستند هنا إلى طريقة أخرى للتفكير في هذا المفهوم وهي طريقة تنظر إلى المعلومة بمعناها الأعم والأقل دقة على المستوى الرياضي ولكن الأكثر قدرة على الوصف على الصعيد العملي، على أنها «جزء من المعنى» أي إنها معلومة ترتبط بتنفيذ مهمة ونقل أمر بين كيانين، وهذا هو المعنى المنتشر في علم الأحياء حيث كتب عالم الأحياء فرانسوا جاكوب: «إن عالمنا الحالي عبارة عن رسائل ورموز ومعلومات.» فهكذا تتحكم في تعقيد الأجسام الحية (انظر الفصل الأول) معلومات متشابكة ذات طبيعة كيميائية في أغلب الأحيان، وتسمح هذه المعلومات للأجزاء المختلفة بالتفاعل فيما بينها؛ ومن ثم تسمح لهياكلها بالتغير مع الوقت وبالتفاعل مع المعلومات التي تصل إليها من بيئتها. وتعتبر هذه المجموعة المعقدة من الأحداث التي تحمل أعمالا أو تأثيرا أو معنى هي إحدى خصائص الكائنات الحية.
3
وكلما زاد تعقيد النظام الحي زاد عدد هذه المعلومات التي تتيح عمل النظام؛ لذا يتعلق الأمر من الآن فصاعدا بالمعلومة الوراثية الموجودة داخل جيناتنا، تلك التي تحدد عددا من صفاتنا الجسدية، أو عن المعلومة المحفوظة في الذاكرة، تلك التي تملأ عقلنا بالذكريات وتقود أعمالنا في العالم الذي يحيط بنا.
ويعنينا هنا هذا النوع الأخير لأنه يشكل طريقتنا المميزة للبشر. وقد جرت محاولات لتعريف الذاكرة الإنسانية من حيث كمية المعلومات، ولن نذكر هنا نتائجها؛ لأنها تقريبية للغاية وربما تكون خاطئة. ولكن الشيء الوحيد الذي يجب معرفته هو أن هذه الأرقام المحدودة بالطبع (فكمية المعلومات المخزنة في ذاكرتنا ليست بلا حدود) هي أرقام هائلة. ولمزيد من الوضوح، نذكر بأن العقل الإنساني يحتوي على حوالي 100 مليار خلية عصبية، وأن كلا منها يستطيع التفاعل مع (أي نقل المعلومات إلى) الآلاف من الخلايا الأخرى. فيمكننا إذن أن نتخيل - بلا مشقة - التعقيد والعدد الضخم من التفاعلات الممكنة، وما يمكننا بلا شك إبرازه هو أن الأداء القوي للعقل الإنساني يسمح له بالتعامل مع كمية من المعلومات أضخم بكثير من تلك التي يتعامل معها عقل أقرب نظرائه مثل الشمبانزي. (2-2) هل الاختلافات بين الإنسان والحيوان اختلافات كمية فقط؟
هل اختلافنا الوحيد عن الحيوان على الصعيد الكمي فقط؟ هل كمية المعلومات التي يعالجها العقل هي التي تفرق وحدها بين الإنسان وأسلافه الحيوانات الأكثر قربا منه (والأكثر ذكاء)؟ في الواقع تسمح بعض التأملات في علم الأعصاب بالتفكير في هذا الافتراض. فلا يمكن عامة مقارنة حجم عقول حيوانات مختلفة؛ فنظرا إلى اختلافات الحجم والتركيب التشريحي، لا معنى لمثل هذه المقارنات. ولكن يمكننا في المقابل التفكير في القيام بذلك بين فصيلتين متشابهتين تشريحيا مثل الشمبانزي والإنسان،
4
ولكن حجم جمجمة الإنسان حوالي أربعة أضعاف حجم جمجمة الشمبانزي؛ وبذلك يمكننا أن نتخيل إجمالا وجود قسمين إضافيين للخلايا العصبية؛ ومن ثم أربعة أضعاف عدد الخلايا. وعندما نعرف أن كل خلية تتفاعل مع الآلاف من الخلايا الأخرى، يزيد ذلك من احتمالات التفاعل بصورة هائلة. فيبدو إذن من المعقول أن الاختلاف الجوهري بين الإنسان والحيوانات يكمن أولا في هذا التفاوت الكبير في كمية المعلومات التي يعالجها العقل.
ولكن الفلسفة تعلمنا أن الكمية قد تتحول أحيانا إلى نوعية، وهذا ما نلاحظه بالطبع لدى الجنس البشري، فهو بالطبع حيوان ومزود بآليات جينية أو فسيولوجية أو عاطفية تميزه جوهريا عن (بقية) الحيوانات، ويبلغ بفضل قوة عقله «طريقة عيش» جديدة، فيحول النماذج الأولية التي لاحظناها عدة مرات لدى أسلافه الحيوانات إلى إنجازات مدهشة في أغلب الأحيان (انظر الفصول الثامن والتاسع والحادي والعشرين)، ويكون ذلك على مستويين يتلاءمان إجمالا مع عمل نصفي مخه. (2-3) معالجة المعلومة ونصفا المخ
لدى الإنسان الأيمن (بما أن المسألة تزداد تعقيدا لدى الشخص الأعسر، ولن نتطرق إليها هنا) يعالج نصف المخ الأيسر المعلومات البسيطة بصورة تحليلية ومجردة ويحاكي العالم الخارجي، فيستكمل هكذا معرفة العالم الواقعي والبيئة التي يتحرك فيها، وهي العملية التي تبدأ بالفعل لدى الحيوانات «المتطورة» وتحولها إلى معرفة أكثر تعقيدا نسميها «المعرفة العلمية». وبعبارة أخرى، يتعلق النصف الأيسر باللغة والعقلانية. ومن أجل إبراز هذه العملية المهمة المتمثلة في معالجة المعلومة، أطلق الإنسان على نفسه لقب «الإنسان العاقل». وما دمنا نتحدث عن الإنسان الأيمن، فإن النصف الأيمن يعالج بصورة إجمالية وواقعية صورا وأشكالا ورسوما بيانية شاملة؛ أي مجموعة من المعلومات الأكثر تنظيما دون أن يفصل مكوناتها وغالبا بإضافة ملمح عاطفي. ويسهم هذا النصف أيضا في توليد الفكر الخيالي والأولي، كما رأينا لدى الحيوانات، ويدفع الجهاز العصبي إلى محاكاة ما وراء الواقع، وبعبارة أخرى يتعلق هذا النصف باللاعقلانية بل بالفن.
صفحة غير معروفة