الإنسان والحيوان والآلة: إعادة تعريف مستمرة للطبيعة الإنسانية
تصانيف
2
وفي عام 1791 صمم فون كمبلن أيضا آلة ناطقة قال عنها جوته: إنها «ليست ثرثارة ولكنها تنطق بعض الكلمات الطفولية بطريقة مهذبة.» ويقال إن ألكسندر جراهام بيل عندما رأى نسخة من هذه الآلة بدأ برفقة أخيه في صناعة عدد كبير من الرءوس الناطقة. وبعد بضعة أعوام، اخترع الهاتف وأدخل التقنية التي تسمح بتمثيل الصوت عبر إشارات كهربية مما تسبب بطريقة ما في التوقف عن استخدام المحاولات الآلية المختلفة للحصول على النتيجة ذاتها. وتركزت الأبحاث بعد ذلك على التحدي الثاني الذي يواجه الآلة الناطقة والذي كان ديكارت يرى أنه مستحيل؛ ألا وهو تكوين خطاب.
وفي عام 1950 اقترح آلان تورنج تجربة لحسم مسألة ذكاء الآلات؛ الآلة الذكية هي التي يمكن اعتبارها إنسانا خلال محادثة نصية تتم عن بعد. وتنبأ تورنج بأن أي نظام نزوده بقدرات تعلم ملائمة قد يستطيع اجتياز هذا الاختبار بنجاح قبل نهاية القرن العشرين. وتعد مساهمة تورنج فلسفية بصورة أساسية باقتراحه لاختبار يقوم فقط على الملاحظة وليس على افتراض آلية داخلية من نوع خاص. إلا أن العديد من الباحثين فسروا بطريقة حرفية التحدي الذي أطلقه تورنج؛ فحاولوا تصميم آلات قادرة بالفعل على تقليد الإنسان، وأشهرها نظام إليزا الذي صممه جوزيف فايتسنبوم في عام 1966 والذي نجح في بعض الحالات في إعادة إنتاج سمات محادثة ذات معنى عبر الاستناد فقط إلى تفسيرات جمل، مع أنه لا يفهم شيئا من الأحاديث المتبادلة التي يشارك فيها. وعلى هذا المنوال، ابتعدت العديد من المحاولات عن القيام بمعالجة حقيقية لمعنى المحادثات في سبيل محاولة النجاح في اختبار تورنج.
إن تصميم آلة قادرة على فهم ما نقوله لها يعد مشكلة صعبة بصورة جوهرية. وبالرجوع إلى الوراء، يتضح لنا أن تاريخ النظريات بشأن الخصائص المميزة للقدرات اللغوية البشرية يعكس مباشرة تاريخ التقنيات المتوفرة في عصر معين. وإذا كنا قد بدأنا منذ الخمسينيات في اعتبار تعلم الحديث مشكلة حاسوبية، فذلك ليس وليد الصدفة. ففي مواجهة نظريات تشومسكي التوليدية التي تبرهن على أن تعلم الكلام بفضل أمثلة يواجهها الأطفال يعد مشكلة صعبة للغاية ما لم يكن هناك تراكيب فطرية موجودة من قبل من شأنها تسهيل هذه المشكلة، تشير النظريات الإحصائية إلى أن تقدم تقنيات الاستخلاص والتعلم الآلي يسمح بإيجاد مزيد من الهياكل التي لم نتخيلها من قبل.
3
واليوم، يسمح لنا التقدم المحرز في علم تصميم الروبوتات بإعادة النظر في هذه المشكلة من زاوية أخرى؛ فالطفل يحتاج إلى عدة أشهر للبدء في إتقان مبادئ طرق الحديث. وحين يدخل تدريجيا في المرحلة اللغوية في سن عام ونصف تقريبا، يكون بالفعل يتمتع بأداء حسي وحركي ملحوظ. وإذا كان يجب الاستلهام من الطريقة التي يتعلم بها الأطفال للوصول في يوم ما إلى تصميم آلة ناطقة كما يعتقد تورنج، فقد يعني ذلك أنه لهذا الغرض يتعين على أي آلة المرور بكل مراحل النمو التي تسبق تعلم الكلمات الأولى؛ معرفة جسدها، والتعرف على الأشياء والتحكم فيها، والتفاعل مع نظرائها بطريقة غير لغوية، وتعلم توزيع الانتباه، إلخ ... فنحن ما زلنا بعيدين كل البعد عن فهم هذه العمليات بصورة كافية وجيدة مما يمنعنا من تصميم آلة من شأنها أن تبدأ مسيرة النمو مثل الطفل ولكن البحث يتقدم (انظر الفصلين الخامس والثامن). وبهذه الطريقة الجديدة في معالجة الأمور، يتعين من جديد إعادة صياغة النقاش حول الأمور الفطرية والأمور المكتسبة في تعلم اللغة. (2-2) الآلات تستطيع حل المشاكل المعقدة
بالإضافة إلى الحديث، يستطيع الإنسان استخدام الرموز والتفكير بصورة مجردة وحل مشاكل معقدة. كانت هذه القدرات التي يتقنها الإنسان البالغ وحده أهدافا مميزة للمهندسين الحريصين دائما على تصميم آلة تتجاوز كل الآلات الموجودة.
تمثل ملحمة الآلات التي تلعب الشطرنج مثالا جيدا على هذا البحث. وتجسد آلة «ذا تورك» التي تلعب الشطرنج، والتي صممها البارون فون كمبلن في عام 1771، أحلام انتصار الآلة على الإنسان على صعيد الذكاء. واتخذت هذه الآلة بعد ذلك مسارا نموذجيا حتى بعد وفاة صاحبها ونجحت في هزيمة أكبر شخصيات عصره بداية من نابليون بونابرت وحتى بنجامين كونستان. وفي عام 1836 أظهر إدجار آلان بو الحيلة التي لجأ إليها البارون للقيام بهذه المعجزة: كان ثمة رجل ضئيل مختبئ بمهارة داخل الآلة. ومنذ ذلك الوقت، ستعتبر لعبة الشطرنج على مدار فترات طويلة ساحة معركة رمزية يواجه فيها الذكاء الإنساني الذكاء الاصطناعي.
وفي عام 1997، عندما نجح كمبيوتر ديب بلو الذي صممته شركة آي بي إم في الانتصار أخيرا على بطل العالم في الشطرنج جاري كاسباروف، كان أول رد فعل للرأي العام هو أنه إذا هزمت الآلة الإنسان، فهي تهزمه «دون قصد». وفي الواقع كانت الطريقة المستخدمة تعتمد بطريقة ما على محاولة التنبؤ بنتائج عدد من الحركات عبر التكرار واستكشاف العديد من الاحتمالات بسرعة إعجازية تبلغ 300 مليون حركة في الثانية (انظر الفصل الثاني). وربما نكون محقين في اعتقادنا أن بطلا كبيرا مثل كاسباروف لا يتبع بالضرورة النهج نفسه في اختيار خططه. ومع ذلك، اتفق الكثيرون بسرعة كبيرة على القول إن الشطرنج كان في النهاية مثالا أسيء اختياره للمقارنة بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي. وفي الواقع، تقوم لعبة الشطرنج قبل كل شيء على التفكير بصورة منطقية في مساحة رمزية ومغلقة وفقا لقواعد صارمة يمكن التنبؤ بها، فهي تشبه بطريقة ما عالما من الآلات. ولا يقترب التعقيد الجوهري في لعبة الشطرنج أيا كانت درجته من تعقيد العالم الفيزيائي أو التفاعلات الاجتماعية. فمن الصعب جدا على آلة أن تتصرف «بذكاء» في هذه الظروف الأخرى.
وهكذا يقودنا التقدم في مجال ذكاء الآلات بطبيعة الحال إلى إعادة تعريف الذكاء. فنحن كنا نعتقد أن الذكاء هو لعب الشطرنج، أما اليوم فيتفق الكثيرون على أن ذكاءنا يتجلى قبل كل شيء في المجال الفيزيائي أو الاجتماعي؛ أي في التعقيد الغريب لسلوكياتنا اليومية المتكررة. فلن يستطيع إذن الذكاء الاصطناعي أن يصل إلى هدفه في يوم من الأيام؛ لأنه كلما اقترب من ذلك يتغير هذا الهدف.
صفحة غير معروفة