منحى القول بأن الأدلة العلمية التي يوردها العلماء لنفيه والتشكيك فيه أرجح من الأدلة العلمية التي يوردونها على تأييده. •••
أما أنصار مذهب النشوء في الشرق العربي فقد كان أشهرهم وأفصحهم بيانا الدكتور شبلي شميل، وقد كاد أن يسبق دارون وأصحابه إلى الأخذ بالنظريات النشوئية على علاتها، وقد سبق الماديين الغربيين إلى نفي كل صفة روحية أو غيبية في الإنسان؛ إذ قال في مقدمة ترجمته لشرح بخنر على مذهب دارون: «إن الإنسان على رأي هذا المذهب طبيعي؛ هو وكل ما فيه مكتسب من الطبيعة. وهذه الحقيقة لم يبق سبيل للريب فيها اليوم، ولو أصر على إنكارها من لا يزال مفعول التعاليم القديمة راسخا في ذهنه رسوخ النقش في الحجر.
فالإنسان يتصل اتصالا شديدا بعالم الحس والشهادة، وليس في تركيبه شيء من المواد والقوى يدل على اتصاله بعالم الروح والغيب؛ فإن جميع العناصر المؤلف منها موجودة في الطبيعة، وجميع القوى التي فيه تعمل على حكم قوى الطبيعة؛ فهو كالحيوان فزيولوجيا، وكالجماد كيماويا، والفرق بينه وبينها فقط بالكمية لا الكيفية، والصورة لا الماهية، والعرض لا الجوهر؛ فالإنسان يحس، والحيوان يحس، والإنسان يدرك، والحيوان يدرك، ونواميس التغذية واحدة فيهما، غير أن الإنسان يدرك أكثر من الحيوان؛ لأنه أكمل تركيبا من الحيوان.»
وكانت ردود الدكتور شبلي شميل على مناقشته تكرارا لردود دارون وبخنر وغيرهما من القائلين بتحول الأنواع، وفحواها: (1)
إن التباينات بين الأنواع لا تزيد على التباينات بين أفراد النوع الواحد إلا بالوراثة، وهذه أثر ثابت لا يحكم عليه بالفترة المعلومة من تاريخ الإنسان؛ لأنها ثبتت بعد انقضاء مئات الملايين من السنين. (2)
وإن أنصاف الأنواع من شأنها أن تعيش وتنقل ميراثها إلى زمن طويل؛ لأن التوريث مرتبط بتمام الجهاز المميز للنوع، وهو لا يتم في أنصاف الأنواع، ولكن قد يدل عليه التناسل بين بعض الحيوانات كالخيل والحمير، أو الكلاب والذئاب، وقد يدل عليه «اكتشاف الطير العجيب - الأركوبتركوس - الذي وصل بين طائفتين من الحيوان منفصل بعضهما عن بعض انفصالا تاما، وهما: الطيور والحشرات». (3)
إن العلماء يخطئون في وضع حدود الأنواع، وقد ذكر دارون «أن النباتي الإنجليزي وستن يذكر 182 نباتا إنجليزيا عدها غيره أنواعا مع أنها تباينات، وقد قال هوكر في هذا المعنى ما نصه: إن النباتيين يعدون الآن من 8000 إلى 15000 نوع من النبات؛ فالنوع إذن غير محدود.» (4)
إن التحولات لا ينبغي أن يبحث عنها في الأنواع الحاضرة؛ لأن كلا منها تطور عن أنواع سابقة له في سلسلة هي التي كان يمكن أن يجري بينها التحول في أوانه، ولكن الأنواع الحاضرة تباعدت عن أصولها؛ فابتعدت الأشباه المتحولة فيما بينها.
ولا ننسى - عند تقدير عوامل العناد بين الطرفين - أن الدكتور شبلي شميل إنما يواجه بهذه الخصومة اللدود سلطان رجال الدين، فانساق من هذه الخصومة إلى خصومة الأديان، ورأى - كما قال في مقدمة الترجمة - أن «الملل والديانات أصلها واحد، وقيامها في الدنيا إنما هو لعاملين: حب الرئاسة في الرؤساء، وارتياح المرءوس إلى حب البقاء، وكلاهما لما في الإنسان من محبة الذات ؛ فسطا دهاة الناس على ساذجي العقول منهم، فساد البعض وسيد على البعض الآخر، وتم بذلك غرض الفريقين.»
وخاطب رؤساء الدين قبل ختام المقدمة قائلا: «سوف يتولى ما بقي، ولربما كان حظكم من ذلك في الشرق أطول جدا لولا أن الغرب باسط فوقه يديه، ولا تعللوا النفس بما في التاريخ من سقوط بعض الأمم ألقت إليكم مقاليد أحكامها، وسلمتكم زمام أمورها، فإنه وإن حصل ذلك إلا أنكم لن تبلغوا أمانيكم؛ لتوفر معدات التقدم في العلوم والصنائع، وانتشار ذلك بواسطة الطباعة.» •••
صفحة غير معروفة