ويلجأ النشوئيون - على رأي دارون ووالاس - إلى تعليل آخر لحدوث التحول في الأنواع، فيعللونه بالانتخاب الطبيعي والانتخاب الجنسي، مع القول بتنازع البقاء؛ لزيادة المواليد الحية على الموارد الكافية لتغذيتها ووقايتها.
فالزرافة - عندهم - لم تنقل صفة مكتسبة إلى ذريتها، ولكن أفراد الزراف ولدت قديما وفيها تفاوت في الصفات كما يتفاوت الأفراد في جميع الأنواع، وبقي أطولها عنقا لأنه استطاع أن يبلغ أعالي الشجر؛ حيث يقل الطعام ويقصر غيره من أفراد الزراف عن بلوغه. وهنا يعمل الانتخاب الطبيعي عمله، فتبقى ذرية الزراف الطوال العنق، وينقرض ما عداها، ويعمل الانتخاب الجنسي عمله مع الانتخاب الطبيعي؛ لأن الأفضل من ذكور الحيوان وإناثه يفضل على غيره عند الجنس الآخر، فيعقب كلا الجنسين المفضلين ذرية تشبهه في الامتياز على سائر الأفراد.
وليس مثل الزرافة في رأي دارون بأسعد حظا من هذا المثل في رأي لامارك؛ لأن المعترضين عليه يقولون: إن قلة الورق على فروع الشجر السفلى يبيد صغار الزراف، كما يبيد أنواع الحيوان التي تعيش مثله على العشب أو على الشجر القصار، وأن ذكور الزراف أطول أعناقا - في الغالب - من إناثه، فهي خليقة أن تفنى مع غيرها من الزراف القصار الأعناق.
إلا أن الأكثرين من النشوئيين يعتبرون هذا الخطأ سوء تمثيل من دارون، ولا يجعلونه سببا كافيا لبطلان القول بالانتخاب الطبيعي؛ فلو أن دارون نظر إلى مزية القوائم الطوال، ولم ينظر إلى مزية العنق الطويل لأمكن تعليل بقاء الزراف الممتاز بالقدرة على الجري بفعل الانتخاب الطبيعي والانتخاب الجنسي في وقت واحد؛ لأنه يفلت من مطارديه، ويسبق سائر الزراف إلى أماكن المرعى كلما اضطرته ندرة المرعى إلى الانتقال من مكان إلى مكان، وقد صح تمثيل دارون بأنواع شتى من الحيوان غير نوع الزراف فلم يصادفه فيها مثل هذا الاعتراض. •••
وبعد المقارنة بين الرأيين - رأي لامارك ورأي دارون ووالاس - يتضح أنهما ينتهيان إلى نتيجة متشابهة؛ وهي ضرورة القول في النهاية بوراثة الصفات المكتسبة على طول الزمن، فإن لم تنتقل بعد اكتسابها في حياة فرد واحد، فهي منتقلة بعد التجمع والتمكن من فرد إلى فرد يتم بينهما التوارث فجأة، أو على أثر التدرج البطيء، ولم يكن في ذهن دارون فرض معلوم غير طول الزمن يوم خالف النشوئيين من قبله في تعليله لتحول الأنواع.
وكل ما هنالك أن دارون جرى على عادته من اجتناب الأحكام الإيجابية كلما أمكن تعليل الظواهر المجهولة بالعلل السلبية؛ فهو يقول: إن الأنواع تبقى لأن أسباب الانقراض عجزت عن إبادتها، بدلا من القول بمؤثرات معينة تخلق الصفات، وتؤدي إلى انتقالها بالوراثة، وتكاد آراؤه في تنازع البقاء وفي الانتخاب الطبيعي والانتخاب الجنسي أن تنتهي إلى نتيجة واحدة؛ وهي أن الأحياء بقيت لأنها لم تنقرض، وأن أسباب الفناء عجزت عن إبادتها كما أبادت غيرها.
وهذه العادة الذهنية هي في وقت واحد مصدر القوة ومصدر الضعف في تفكير دارون، وفي هذا الضرب من التفكير على عمومه؛ فإنها دليل على الأمانة الفكرية التي تحجم عن تقرير حكم معين قبل ثبوته والإحاطة بحقيقته، وهي كذلك موضع النقص الظاهر؛ لأن العوامل السلبية لا تقوم عليها دلائل الخلق والإنشاء، وإن قامت عليها أحيانا دلائل الزوال الذي يفيد زوال فريق وسلامة فريق.
وقد كان خطأ النشوئيين في تقرير مسألة الوراثة نقصا لازما لمباحث العلم الطبيعي في القرن التاسع عشر، أيا كان رأي العالم الذي يقرر هذه المسألة؛ لأن أسرار الوراثة لم تعرف قبل تقدم علم الناسلات (أو الجينات)
Genetics ، وظهور فعل الناسلة
Gene
صفحة غير معروفة