من وجهين؛ أحدهما: أن هناك السجود كان فرضا، وها هنا الأمانة كانت عرضا، وثانيهما: أن الإباء كان هناك استكبارا، وها هنا استصغارا؛ استصغرن أنفسهن، بدليل قوله تعالى:
وأشفقن منها ، وقال بعضهم في تفسير الآية: إن المخلوق على قسمين: مدرك وغير مدرك، والمدرك منه من يدرك الكلي والجزئي مثل الآدمي، ومنه من يدرك الجزئي كالبهائم تدرك الشعير الذي تأكله ولا تفكر في عواقب الأمور، ولا تنظر في الدلائل والبراهين، ومنه من يدرك الكلي ولا يدرك الجزئي؛ كالملك يدرك الكليات ولا يدرك لذة الجماع والأكل.
قالوا: وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله:
ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء ، فاعترفوا بعدم علمهم بتلك الجزئيات، والتكليف لم يكن إلا على مدرك الأمرين؛ إذ له لذات بأمور جزئية، فمنع منها لتحصيل لذات حقيقية هي مثل لذة الملائكة بعبادة الله ومعرفته، وأما غيره فإن كان مكلفا يكون مكلفا لا بمعنى الأمر بما فيه عليهم كلفة ومشقة، بل بمعنى الخطاب؛ فإن المخاطب يسمى مكلفا كما أن المكلف مخاطب.»
وقال الإمام ابن كثير - المتوفى سنة 774 للهجرة: «عن ابن عباس: يعني بالأمانة الطاعة، عرضها قبل أن يعرضها على آدم فلم يطقها، فقال لآدم: إني قد عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها، فهل أنت آخذ بما فيها؟ قال: يا رب، وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت. فأخذها آدم فتحملها، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الأمانة الفرائض، عرضها الله على السماوات والأرض والجبال؛ إن أدوها أثابهم، وإن ضيعوها عذبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيما لدين الله ألا يقوموا بها، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها.
قال مجاهد وسعيد بن جبير والحسن البصري وغير واحد: إن الأمانة هي الفرائض، ثم أورد الإمام ابن كثير أقوالا أخرى مروية بأسماء أصحابها، وعقب عليها قائلا: «إنها كلها لا تنافي بينها، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف وقبول الأوامر والنواهي بشرطها.» •••
وجاء في تفسير الإمام السيوطي - المتوفى سنة 911 للهجرة: «
إنا عرضنا الأمانة : الصلوات وغيرها، من فعلها له الثواب، ومن تركها عليه العقاب.»
وقال الإمام محمد جمال الدين القاسمي - المتوفى سنة 1332 للهجرة:
عبر عنها بالأمانة تنبيها على أنها حقوق مرعية أودعها الله تعالى المكلفين، وائتمنهم عليها، وأوجب عليهم تلقيها بحسن الطاعة والانقياد، وأمرهم بمراعاتها والمحافظة عليها وأدائها من غير إخلال بشيء من حقوقها، ومعنى الآية أن تلك الأمانة في عظم الشأن بحيث لو كلفت هاتيك الأجرام العظام - التي هي مثل في القوة والشدة - مراعاتها، وكانت ذات شعور وإدراك؛ لأبين قبولها وأشفقن منها.
صفحة غير معروفة