قال: «ونعيد مرة أخرى أن التطور لن يكون مفهوما إلا إذا سلمنا أنه خاضع لغاية ، وأنها غاية بعيدة مقدورة.»
ثم ختم بحوثه قائلا:
إن بعضهم قد يرى أننا على مسافة بعيدة من اليوم الذي يصبح فيه الإنسان وقد تطور التطور الذي يجعله أهلا لأن يشعر بضميره، وألا يكون كل حقه في المعاملة أن يعامل كما يعامل الطفل القاصر، وربما صح هذا، ولكنه - إذا صح - كان خليقا أن يصبح سببا للاتجاه بجهوده إلى تلك الغاية.
وإن الإنسان المتطور قد بلغ حالة من نمو الضمير تيسر له أن يوسع أفق النظر، وأن يلمح الدور العظيم الذي يضطلع به في إنجاز غايات التطور، فليس الإنسان كذلك الحيوان الأعمى الذي يعمل في أعماق البحر ولا يدري أنه يبني بعمله جزيرة مرجانية سوف تعمر بالكائنات التي هي أصلح منه وأعلى؛ لأن الإنسان يعمل وهو يعلم أنه رائد للسلالة المقبلة التي ستكون على وجه من الوجوه وليدة سعيه وجهده.
وعلى كل إنسان أن يذكر أن القانون قد كان، وسيبقى كما كان، وأن يناضل، وأن النضال لم يهدأ لأنه تحول من الميدان المادي إلى ميدان الروح، وعليه ألا ينسى أن كرامته، باعتباره كائنا آدميا، ينبغي أن تصدر من جهاده في تحرير نفسه، وأن ينقاد في ذلك الجهاد لأعمق البواعث من قرارة وجدانه، ولا ينسى أبدا أن الشرارة الإلهية كامنة في تلك القرارة، في قرارته دون غيره، وأنه هو حر قادر على أن يهملها وأن يقتلها، قدرته على أن يقترب من الله، وأن يعرب عن غيرته على العمل مع الله، والعمل في سبيل الله.
ولقد آل تطور الإنسان عند غير البيولوجيين إلى تطور الإنسان الصانع، وقيام الصناعة الكبرى مقام الصناعات الصغيرة التي بدأت منذ مئات القرون، فجعلت الإنسان سيد الخليقة حين جعلته قادرا على العمل بيديه، واختراع الآلة المصنوعة لإنجاز عمله. وستفعل الصناعة الكبرى بأيدي المجاميع البشرية فعل الأداة الحجرية قبل مئات القرون بيد الإنسان الأول، إذ لم تكن له قدرة على الحيوان الأعجم غير تلك الأداة.
ولا نخال أن أحدا عبر عن هذا الرأي تعبيرا أدنى إلى الفهم من تعبير الأستاذ رسل هاريسون في كتابه «ماذا يكون الإنسان؟» فإنه ترك لغة «بابل» الحديثة: لغة البلبلة العلمية بين الفروض الصريحة والفروض المبهمة، والمقابلات من هنا والمعارضات من هناك، ووضع أمل التطور حيث ينبغي أن يوضع، إن كان له موضع على الإطلاق، وذلك هو موضعه في «الشخصية الإنسانية».
فلا مستقبل للإنسان إن لم يكن مستقبلا لشخصيته الكاملة، ولا تطور لهذه الشخصية إن لم تكن شخصية «ذات جوانب»، ولم تكن جوانبها براء من النقص والخلل.
إن الشخصية الإنسانية عاطفة وعقل وضمير، وليست مجرد أعضاء ووظائف وخلايا وأعصاب. ومعنى تطور الإنسان في الذهن أن تتم له هذه الشخصية بعدما نبتت له بذورها مع أطواره الماضية، وليس في الواقع ما يمنع «الشخصية الإنسانية» أن تتحقق كما تحققت في الذهن فكرة قابلة للتمام.
عود على بدء
صفحة غير معروفة