جواب آخر: " لا تدركه الأبصار " يعني أبصار الكفار دون المؤمنين، ليجمع بين قوله تعالى: " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " وبين قوله تعالى: " كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " وهذا صحيح؛ لأن الحجاب لما كان للكفار دون المؤمنين، كذلك الرؤية للمؤمنين دون الكفار.
جواب آخر: وهو أن أبصار الخلق لا تدركه في الدنيا والآخرة؛ لأن هذه الأبصار جعلت للفناء، وإنما يحدث لهم بصرا غير هذا البصر، ويكون باقيا غير فان فيرى الباقي بالباقي، وقد قيل: إنه تعالى يحدث لأوليائه حاسة سادسة غير هذه الحواس الخمس يرونه بها. وقال هذا القائل: الله أخبر في كتابه العزيز: أنه يراه أهل الجنة، وخبره حق لا يدفع بالشبهة، ولا يمكن الجمع إلا بما قلناه من إحداث حاسة يرى بها الله تعالى، دون هذه الحواس. والله أعلم بالصواب.
جواب آخر: وهو أن يحمل " لا تدركه الأبصار " على أنها لا تدركه في جهة، ولا تدركه جسما ولا صورة ولا متحيزا ولا حالا في شيء " وهو يدرك الأبصار " على جميع هذه الصفات، وتكون الحكمة فيه الرد على النصارى وأهل التشبيه ومن يقول بالجهة والحيز والصورة، وغير ذلك مما لا يليق به سبحانه وتعالى.
فإن احتجوا بقوله تعالى: " يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة " فأكبر الله هذا السؤال فأنكره.
قيل لهم: لا حجة لكم في ذلك، لأن الله تعالى ما أكبر ذلك لكونه مستحيلا، وإنما أنكره لأنهم سألوه ذلك على وجه التعنت، ألا ترى أنه أنكر عليهم سؤالهم تنزيل الكتاب من السماء، وليس ذلك بمستحيل، وإنما أنكروا استكبارا وتعنتا منهم لمحمد صلى الله عليه وسلم وتشكيكا للناس في نبوته؛ لأن عندهم التوراة، والإنجيل، والفرقان، وكل ذلك منزل من عند الله، وإنما أرادوا بذلك التلبيس على العوام، حتى لا يصدقوا بنبوته صلى الله عليه وسلم، وتركوا ما أوجب الله عليهم من الإيمان به في التوراة والإنجيل، كما قال تعالى: " الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل " فإكباره تعالى سؤالهم ذلك لأجل هذه المعاني لا يكون ذلك مستحيلا. وهذا كما أنكر تعالى سؤال قريش لما قالوا: " لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب أو ترقى في السماء " وكل ذلك جائز غير مستحيل، لكن أنكره عليهم وأكبره لما كان ذلك على وجه التعنت والتكذيب، لما قد وضح من آياته وحججه، وكذلك أنكر سؤالهم الرؤية لموسى عليه السلام على وجه التعنت، لا لكونها مستحيلة.
فإن احتجوا بالخبر المروي عن عائشة رضي الله عنها لما قال لها ابن الزبير وهو ابن أختها يا أماه: هل رأى محمد ربه ؟ فقالت: يا ابن أختي لقد قف شعر بدني، والله تعالى يقول: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء " قالوا: فموضع الدليل من الخبر أنها أكبرت ذلك ونفت الرؤية عن الله تعالى؛ فدل أن ذلك مستحيل في حقه سبحانه وتعالى. الجواب من أوجه: أحدها: أن ابن عباس رضي الله عنه وغيره من الصحابة قد صرحوا بأن محمدا رأى ربه ليلة أسرى به بعيني رأسه، ولو كان ذلك مستحيلا لم يقع الخلاف فيه بين الصحابة، كما لم يقع بينهم الخلاف في ما هو مستحيل على الله تعالى من الولد والزوجة والشريك ونحو ذلك. فلما وقع بينهم الخلاف في ذلك وانقرض عصرهم على ذلك، دل على أن الرؤية جائزة غير مستحيلة. فبطل ما ذكر.
وجواب آخر: وهو أن عائشة رضي الله عنها إنما خالفت فيما رأى به محمد ربه، فعندها رآه بالقلب دون العين، وعند غيرها من الصحابة رآه بالقلب والعين معا، فقد وقع الإجماع منهم على جواز الرؤية عليه تعالى، وإنما اختلفوا فيما به رآه، لا أصل جواز الرؤية عليه، لأن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم رؤية حقيقية لا رؤية مجاز، بخلاف الواحد منا، لأن رؤيته بالقلب قد تكون حقيقة وقد تكون تخيلا ومجازا، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: تنام عيناي، ولا ينام قلبي وقال عليه السلام: إني أراكم من وراء ظهري ورؤية الأنبياء عليهم السلام حقيقة بالقلب والعين.
صفحة ٧٢