قالت لها ببراءة الأطفال إنها اكتشفت أنها فتاة وليست ذكرا، وكشفت عن ملابسها لتثبت لها الحقيقة، لكنها ضربتها على يدها وصاحت: تحرمي! ولم ترد، فضربتها مرة أخرى وهي تقول: قولي حرمت! ولم ترد، فرفعت يدها في الهواء وصفعتها على وجهها، ولم ينفتح فمها لتقول حرمت؛ لأن ذهنها هو الذي انفتح على حقيقة غريبة، وأدركت وهي تزم شفتيها وتطرق برأسها إلى الأرض أن الناس لا تحرم إلا الرغبات الحقيقية؛ لأنها قوية، أما الرغبات غير الحقيقية فهي ضعيفة ولا تحتاج إلى قوانين تحريم، وبدأت تبحث في كل المحرمات من حولها لتكشف رغبات الإنسان الحقيقية.
إنه البحث من أجل معرفة الحقيقة، ولا شيء أكثر من هذا، لم تكن تريد شيئا أكثر من هذا ، وحينما يمر الدكتور علوي بعربته الطويلة من خلال نافذة المشرحة تلمع عيون زميلاتها السبع وتتحرك سبع ننيات «جمع نني» في اتجاه واحد محدد. لكن النني الأسود الراسخ في عينيها يظل مشدودا إلى ذلك الإحساس الغريب الذي ينبهها بأن كل شيء مباح غير حقيقي. وتلكزها إحدى الزميلات بأصبع مدبب في كتفها قائلة: انظري! وترفع رأسها ناحية النافذة، وترى العربة الطويلة، يطل منها رأس له عينان زرقاوان جاحظتان بعض الشيء ويلكزها الأصبع المدبب في كتفها مرة أخرى: ما رأيك يا بهية؟ - نظرته غير حقيقية.
وتضربها بكفها البضة على ظهرها وتقول بصوت ساخر: يا خيبتك القوية!
وتنفتح الأفواه السبعة في ضحكة أنثوية، مكتومة ومتقطعة، كأنفاس تلهث بحرمان عاجز عن الارتواء إلى الأبد.
غضبت من حرمانهن أكثر مما غضبت من ضحكهن، وصعد الدم إلى وجهها، فلمت مشارطها وأدوات تشريحها ووضعتها في محفظتها الجلدية، وغادرت المشرحة. حين سارت في الهواء الطلق، وتلاشت من أنفها رائحة الفورمالين والجثث الميتة أدركت أنها لم تكن غاضبة من حرمانهن ولا من ضحكهن، وإنما هي تريد أن تهمس في أذن أحد بذلك الإحساس الغريب الذي يتكون في جوفها كالجنين طوال السنة، يتراكم يوما بعد يوم، ويعلو ويشتد ليبلغ الذروة في اليوم الرابع من كل سبتمبر، يؤكد لها عن يقين أنها ليست بهية شاهين.
خرجت من الكلية وسارت في شارع القصر العيني، تحملق في الوجوه كأنما تبحث بينها عن وجهها الحقيقي. وعند محطة الترام وقفت، وأدركت أنها لم تكن تبحث عن شيء، وأنها مرهقة وجائعة.
جلست في الترام، ظهرها في ظهر رجل، ووجهها في وجه رجل، وعلى يمينها رجل وعن يسارها رجل، وأمامها صفوف من الرجال الجالسين متلاصقين في صمت، أنصافهم السفلى ثابتة متحجرة فوق المقاعد، وأنصافهم العليا تهتز بحركة بطيئة منتظمة كحركة الترام. وحين يقف الترام تتراجع رءوسهم إلى الخلف بقوة، فإذا بهم يفتحون عيونهم في ذعر، وحين يطمئنون إلى أن رءوسهم لا تزال في موضعها يغمضون عيونهم وينامون.
موظفون كلهم؛ لأن شارع القصر العيني مكتظ بالوزارات ودواوين الحكومة. أجسامهم لها شكل واحد وملامحهم وبدلهم وأصابعهم وأحذيتهم كلها اتخذت شكلا واحدا كأنما الحكومة تصكهم كما تصك النقود في قطع مخروطية متشابهة. أكتافهم متلاصقة، متهدلة بعض الشيء «رغم حشو البدلة السميك» كأنما يحملون فوق أكتافهم عبئا أبديا لا يرى بالعين وإنما هو قائم وموجود، والدليل على ذلك أنهم من حين إلى حين يحركون أكتافهم بطريقة توحي بأنهم يزحزحون العبء من كتف إلى كتف.
ورغم أنهم نائمون إلا أن حركة عيونهم من تحت الجفن تكشف لها أن نومهم ليس حقيقيا، وحين يفتحون عيونهم وينظرون إليها تدرك أن يقظتهم أيضا غير حقيقية، ويصبح كل شيء فيهم ومن حولهم غير حقيقي. إذا انفرجت شفاههم وظهرت أسنانهم لا تعرف إذا ما كانوا يبتسمون أم يكشرون، وإذا حركوا أصابعهم وهم يصعدون الترام أو يهبطون منه لا تعرف إذا ما كانوا يتبادلون التحيات أم التهديدات ويصبح كل شيء مختلطا، والشيء ونقيضه يتماثلان، فالابتسامة كالتكشيرة، والتحية كالتهديد، والصدق كالكذب، والفضيلة كالرذيلة، والحب كالكراهية. وتتشابه الحركات والملامح والمعاني إلى حد الشعور بالاختناق، وتمد عنقها خارج الترام لتجذب نفسا عميقا من هواء الشارع، وحين يعود تنفسها الهادئ تدرك التشويه الذي تصنعه الحكومات بالبشر، فيصبح الرجل البالغ في حجم الطفل، لكن عظام جمجمته تفضح عمره الحقيقي، وتدل البدلة والكرافتة على أنه من الطبقة الحاكمة، لكن مشيته تكشف عن حقيقة كونه من المحكومين.
في كل مكان كانت تراهم، يملئون الشوارع، وتكتظ بهم الترامات، يدخلون ويخرجون من الأبواب، والردهات والأبنية، بأجسامهم الصغيرة، وأكتافهم المحشوة العريضة وجماجمهم الكبيرة، وظهروهم المحنية، وشفاههم المنفرجة دائما عن ابتسامة كالتكشيرة أو تكشيرة كالابتسامة. مخلوقات آدمية مسخت بقدرة قادرة، بقوة هائلة غير بشرية، تحول البشر إلى مخلوقات أخرى غير بشرية.
صفحة غير معروفة