أيها الشيخ، أيها الشيخ!
وكمن يؤذن في مالطا لا سميع ولا مجيب، وأخذ يمشي كما كان يمشي كالحرباء، وتمنيت أن يكون هذا الذي أنا فيه ليس سوى كابوس لا أكثر، سأستيقظ وأجد نفسي في أمان الله وحفظه على سرير في المعسكر وحولي جند يدخنون والحرس يصيح بين حين وآخر: ثابت!
الحياة مدرسة ولكن لا يدخلها إلا الحمقى، مثل هذا الدرس الذي أتعلمه أنا ولا أحد غيري، يستحقه الملازم حديث التخرج المتغطرس.
تذكرت في هذا الحين بالذات إدجار آلان بو، القلب الذي أخبر السر، القط الأسود، برميل خمر أمنتنلادو، قناع الموت الأحمر ، الحقيقة في قصة اغتيال فلادمير، سقوط بيت، ماذا ... جيفا في ديو مور جبو، كنت أمشي وإذا حدث وسلمت وقصصت لشخص ما حكايتي هذه سيظنها ضربا من الخيال، كنت أمشي كالحرباء وغابت الشمس، عجبت لماذا لم يصبني لغم حتى الآن، نعم، إنه لا مجال لذلك؛ لأنه لا توجد ألغام بالأرض طالما توجد الذئاب والحمر السائبة حول المكان.
وبمجرد أن خطرت هذه الفكرة في ذهنه انطلق جاريا، يجب علي أن لا أؤكل سهلا، يجب ألا أستسلم للموت، ومرت بذهنه معارك خاضها؛ جثث تموت بسهولة، يقف الشخص هناك ما أن تطلق عليه رصاصة تصيبه في صدره أو رأسه حتى يستسلم للموت ببرود، هكذا مات أصدقاؤه أيضا، مات جنود كانوا برفقته في الخندق، مات جنود أعداء، هكذا نساء سقطن وأطفال موتى أمام عينه عندما قذف صديق له جرانيت في مخبأ بين صخرتين اتخذته بعض الأسر ملجأ لها، ولكن لن يموت هكذا رخيصا وباردا، وهكذا الرجل التقي العنيد، لا يريد أن يستجيب لندائه ولترحيبه، رجل قاس، لا يلين له قلب، لا يرحم ولا يهزه رجاء، لا شفقة! ليتني! ولكن هل تنفع ليت؟!
وعرف الآن ما لم يهمس به السائق في أذنه وأنه تورط، والأسوأ إحساسه بأنه خدع، والإحساس بالخديعة كالاستحمام بماء آسن، قرأ في سره:
قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ، ولأنه كفر به؛ عرفه أكثر وأوضح، عندما كفر به تفتحت بصيرة كان يعميها الإيمان الكامل المطلق: الكفر مفتاح الفرج.
عند الحادية عشرة ليلا بالضبط - هكذا كانت تشير ساعته - سمع حرس المعسكر يصرخ: ثابت!
وعندما ثبت قدمه على الأرض أحس بشيء يرفعها، لم يسمع دويا كالذي سمعه كل المعسكر واستيقظ عليه الجنود النائمون وانبطح الحرس على أثره على الأرض وأخذ يطلق النار بطريقة عشوائية هستيرية، لقد كان الحارس مرهق الأعصاب نتيجة للسهر المتواصل وعدم أخذ قسط كاف من الراحة، لم يسمع دويا ولكنه رأى ضوءا قويا كثيفا يعم المكان كله، ثم لم يعد يشعر بشيء سوى ظلام قاتم.
يناير 2000م
صفحة غير معروفة