كانت هي السجانة، وقد جرت خلفي تلهث وبصوت لاهث كالأصوات التي أسمعها في الحلم، وفمها أيضا أصبح كبيرا، وشفتاها كبيرتين، تتحركان أمام عيني كمصراعي باب كبير يفتح ويغلق ثم يفتح ويغلق، وسمعتها تقول: فردوس يا دكتورة! فردوس ستقابلك!
لو أنها كانت تقول: إن رئيس الدولة هو الذي سيقابلني ما كان صدرها يعلو ويهبط بهذا الشكل، وما كانت أنفاسها تلهث بهذه السرعة، وما كانت عيناها أو وجهها يعكس هذا الانفعال العنيف!
وأصبحت أنفاسي تلهث هي الأخرى كأنما بالعدوى، أو بعبارة أصدق: ألهث لأن قلبي بدأ يدق دقا عنيفا، لم أعرف كيف هبطت من العربة، وكيف سرت خلف السجانة أتبع خطاها، بل إن قدمي كانتا تسبقانها في بعض الممرات، قدمان سريعتان خفيفتان كأنما لا تحملان جسدي، وإحساس غريب أزرق، وكأنني أمسك السماء بعيني، وأمسك العالم بيدي، والعالم كله ملكي، إحساس لم أجربه في حياتي إلا مرة واحدة منذ سنوات بعيدة حين أحببت لأول مرة، وذهبت في أول موعد للقاء حبيبي.
وتوقفت لحظة قبل أن أدخل من باب فردوس لأجمع أنفاسي وأعدل ياقة ثوبي، كنت في الحقيقة أحاول أن أسترد نفسي، أن أسترد إحساسي العادي بنفسي، وبأنني باحثة علمية أو طبيبة نفسية أو أي شيء من هذا القبيل. وزاد من إحساسي بنفسي صوت مفتاح الزنزانة يصر صريرا غليظا، وقلت لنفسي وأنا أضغط على مقبض حقيبتي الجلدي: من هي هذه المرأة المسماة فردوس! أليست إلا ...
لكني لم أكمل، وجدتني وجها لوجه أمامها، وتسمرت في الأرض، لم أتحرك ولم أتكلم ولم أسمع صوت قلبي وهو يدق، ولم أسمع صوت المفتاح وهو يغلق الباب علينا، كأنما مت في اللحظة الأولى التي التقت عيناي بعينيها: عينان قاتلتان كسكين ثاقب عميق ثابت، لا يرمش لها جفن، ولا تهتز في وجهها عضلة.
وأفقت بعد لحظات على صوت تبينت أنه صوتها، وصوتها أيضا كالسكين، ثاقب عميق ثابت بارد لا تهتز فيه نبرة، وسمعتها تقول: أغلقي النافذة.
وسرت نحو النافذة في طاعة عمياء وأغلقتها، تلفت حولي في دهشة، لم يكن بالزنزانة سرير أو كرسي أو أي شيء يمكنني الجلوس عليه، وسمعتها تقول: اجلسي على الأرض.
ووجدت جسدي ينثني وحده ويجلس على الأرض، كنا في شهر يناير والأرض عارية، لكني لم أشعر ببرودتها.
كمن يتحرك وهو نائم، والأرض من تحتي لها شكل الأرض وفيها برودة الأرض، ولكنها برودة لا تصل إلى جسدي، كبرودة البحر في الحلم، أسبح فيه ولا أبرد ولا أغرق، مع أنني عارية الجسد ولا أعرف السباحة. وصوتها أيضا كتلك الأصوات التي نسمعها في الأحلام، يخيل إلينا أنها تأتي من بعيد مع أنها قريبة، أو تأتي من قريب وهي بعيدة، ولا نعرف بالضبط من أين تأتي: من فوق أم من تحت، من يمين أو من يسار، وقد نظن أنها تأتي من بطن الأرض، أو من قلب السماء أو السقف، وقد تأتي إلينا من كل الجهات كهواء يملأ الأذن، لكنه ليس هواء، وإنما صوت حقيقي أسمعه ، وامرأة حقيقية من لحم ودم تجلس على الأرض أمامي، ونافذة الزنزانة مغلقة، ولا يمكن أن يكون هذا الصوت إلا صوتها.
2
صفحة غير معروفة