قواعد مهمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الناشر
الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات
تصانيف
قواعد مهمة
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
على ضوء الكتاب والسنة
د. حمود بن أحمد الرحيلي
الأستاذ المشارك بكلية الدعوة وأصول الدين
بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
ملخص البحث
يتضمن بحث " قواعد مهمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ضوء الكتاب والسنة " أهمية الموضوع وخطة البحث، ومنهجي في البحث، وسبع قواعد، وقد جاءت القواعد على النحو التالي:
القاعدة الأولى: الشرع هو الأصل في تقرير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
القاعدة الثانية: العلم والبصيرة بحقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
القاعدة الثالثة: معرفة شروط إنكار المنكر. وهذه الشروط هي:
١ - التحقق من كونه منكرا.
٢ - أن يكون المنكر موجودا في الحال، وله ثلاث حالات، ولكل حالة ما يناسبها.
٣ - أن يكون ظاهرا من غير تجسس ما لم يكن مجاهرا.
٤ - أن يكون الإنكار في الأمور التي لا خلاف فيها.
القاعدة الرابعة: معرفة إنكار المنكر. وجاءت كما يلي:
المرتبة الأولى: الإنكار باليد وشروطه.
المرتبة الثانية: الإنكار باللسان وضوابطه.
المرتبة الثالثة: الإنكار بالقلب.
القاعدة الخامسة: تقديم الأهم على المهم.
1 / 1
القاعدة السادسة: اعتبار تحصيل المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتعطيلها أو تقليلها.
القاعدة السابعة: التثبت في الأمور وعدم العجلة.
ثم خاتمة اشتملت على أهم نتائج البحث، بالإضافة إلى قائمة لأهم المصادر والمراجع العلمية، وفهرس بالموضوعات
علما أني لم أقف على من أفرد هذا البحث بهذا الاسم على حد علمي، وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
• • •
1 / 2
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ . (١)
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (٢) .
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ ﴿يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ . (٣)
_________
(١) سورة آل عمران، الآية ١٠٢.
(٢) سورة النساء، الآية ١.
(٣) سورة الأحزاب، الآيتان ٧٠ - ٧١.
1 / 3
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد: فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل عظيم من أصول الإسلام، ولا شك أن صلاح العباد في معاشهم ومعادهم متوقف على طاعة الله ﷿ وطاعة رسوله ﷺ، وتمام الطاعة متوقف على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (١) .
وقد أولى القرآن الكريم والسنة النبوية هذا الأمر أهمية بالغة، ففيه تحقيق الولاية بين المؤمنين. قال تعالى ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (٢) .
_________
(١) سورة آل عمران، الآية ١١٠.
(٢) سورة التوبة، الآية ٧١.
1 / 4
وهو من أسباب النصر على الأعداء، والتمكين في الأرض. قال تعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ . (١)
وفيه الأمن من الهلاك، والمحافظة على صلاح المجتمعات، فعن النعمان بن بشير ﵁ قال: قال النبي ﷺ: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استَهَموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا» . (٢)
_________
(١) سورة الحج، الآيتان ٤٠-٤١.
(٢) صحيح البخاري مع الفتح، ٥ / ١٣٢، كتاب الشركة، باب هل يُقرع في القسمة؟ والاستهام فيه، رقم ٢٤٩٣، و٥ / ٢٩٢، كتاب الشهادات، باب القرعة في المشكلات، رقم ٢٦٨٦.
1 / 5
وفيه دفع العذاب عن العباد. قال تعالى ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ . ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ . (١)
وهو مطلب مهم لمن أراد النجاة لنفسه. قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ (٢) .
وفيه التوفيق للدعاء والاستجابة. فعن حذيفة بن اليمان ﵁ عن النبي ﷺ قال: «والذي نفسي بيده لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليوشكنَّ اللهُ أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم» . (٣)
_________
(١) سورة المائدة، الآيتان ٧٨-٧٩.
(٢) سورة الأعراف، الآية ١٦٤.
(٣) سنن الترمذي، ٤ / ٤٦٨، كتاب الفتن، باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رقم ٢١٦٩، وقال: حديث حسن.
1 / 6
والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مكفرات الذنوب والخطايا، ففي الحديث الصحيح عن حذيفة بن اليمان ﵁، قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: «فتنة الرجل في أهله، وماله، ونفسه، وولده، وجاره، يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» . (١)
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب الظفر بعظيم الأجور، وتكثير الحسنات، قال تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ (٢) .
وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحيا السنن وتموت البدع، ويضعف أهل الباطل والأهواء، وهو من أبرز صفات المؤمنين وسماتهم، ومن أعظم الوسائل لقوتهم وتماسكهم، والغفلة عنه أو التهاون فيه، أو تركه، يجر من المفاسد الكثيرة، والأضرار الجسيمة. إلى غير ذلك من الفوائد والثمرات الكثيرة المترتبة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
_________
(١) صحيح البخاري مع الفتح، ٢ / ٨، كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلاة كفارة، رقم ٢٥٢، ومسلم ١ / ١٢٨، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، رقم ١٤٤.
(٢) سورة النساء، الآية ١١٤.
1 / 7
وإنه على الرغم من كثرة الكتابات التي تناولت موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن هناك جوانب - في نظري - تحتاج إلى المزيد من الدراسة والعناية، وفي مقدمتها القواعد والضوابط التي تحكم طريقة القيام بهذا الواجب كما بينها العلماء على ضوء ما جاء في الكتاب والسنة. لأن كثيرًا ممن يريد القيام بهذا العمل لا يفقه أيسر الأسس التي يقوم عليها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتجد بعضا من الدعاة يأمر وينهى بغير علم، ويفتي بدون دليل، وبعضا منهم يدعو إلى الفضائل والأخلاق، وهو يرى الشرك متأصلا في أفعال الناس وأقوالهم، فلا يحرك لذلك ساكنا، ولا يصحح عقيدتهم، مع أن البدء بإصلاح عقائد الناس هو الأولى والأهم.
وبعضا من الدعاة يريد تغيير المنكر بيده وهو ليس أهلا لذلك. وبعضا لا يتثبت في الأمور، أو يكون قليل الصبر والتحمل، فيستعجل النتائج.
فهؤلاء وأمثالهم -ممن خالف نهج النبي ﷺ في دعوته وفي أمره ونهيه - يسيئون إلى الإسلام، وإلى الدعوة، وإلى الناس، وإلى أنفسهم أيضا. وبذلك يكون فسادهم أكثر من إصلاحهم.
1 / 8
لذا فقد رغبت في تناول هذا الموضوع تحت مسمى «قَوَاعِدُ مُهِمَّةٍ فَي الأمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهِيْ عَنِ المُنْكَرِ عَلى ضَوءِ الكِتَابِ والسُّنَةِ»، وإن كنت قصير الباع، قليل البضاعة في هذا الشأن، وإنما قصدت المشاركة، ولفت انتباه الدعاة إلى الله إلى العناية بهذا الأمر، والاهتمام به.
1 / 9
خطة البحث:
وقد اشتمل البحث على مقدمة وسبع قواعد وخاتمة.
اشتملت المقدمة على أهمية الموضوع والخطة ومنهجي في البحث.
وجاءت القواعد على النحو التالي:
القاعدة الأولى: الشرع هو الأصل في تقرير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
القاعدة الثانية: العلم والبصيرة بحقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
القاعدة الثالثة: معرفة شروط إنكار المنكر.
القاعدة الرابعة: معرفة مراتب إنكار المنكر.
القاعدة الخامسة: تقديم الأهم على المهم.
القاعدة السادسة: اعتبار المصالح ودرء المفاسد.
القاعدة السابعة: التثبت في الأمور وعدم العجلة.
وأما الخاتمة فقد أوجزت فيها أهم نتائج البحث.
1 / 10
منهجي في البحث:
هذا وقد عزوت الآيات الكريمة إلى السور مع ترقيمها، كما خرجت الأحاديث النبوية التي ذكرتها في البحث، وإذا كان الحديث في الصحيحين أو في أحدهما، فإني قد اكتفي بتخريجه منهما أو من أحدهما لتلقي الأمة لهما بالقبول.
وشرحت معاني الكلمات الغريبة - في نظري -. كما عزوت ما تناولته في البحث إلى المصادر والمراجع التي رجعت إليها. وقد حرصت على سهولة العبارة، ودقة التعبير، مع الاختصار، وعدم الإطالة ما أمكن.
ثم ألحقت بالبحث قائمة بأسماء المصادر والمراجع مرتبة حسب حروف الهجاء، مبينا اسم المؤلف، والطبعة وتاريخ النشر ما أمكن، وقائمة أخرى بالموضوعات.
وأسأل الله تعالى أن أكون قد وفقت فيما كتبت، وأن يتجاوز عن النقص والتقصير، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلَّى اللهُ وسلَّم على نبينا محمد وعلى آلهِ وصحْبِهِ أجمَعِين.
• • •
1 / 11
القاعدة الأولى: الشرع هو الأصل في تقرير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
إن الميزان في كون الشيء معروفًا أو منكرًا هو كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وسنة رسوله الثابتة عنه ﷺ، وما كان عليه السلف الصالح لهذه الأمة، وليس المراد ما يتعارف عليه الناس أو يصطلحون عليه مما يخالف الشريعة الإسلامية.
فما جاء الأمر به في الكتاب والسنة، أو الندب إليه والحث عليه، أو الثناء على أهله، أو الإخبار بأنه مما يحبه الله تعالى ويرضاه، ويكرم أهله بالثواب العاجل والآجل، فهو من المعروف الذي يؤمر به. وما ورد النهي عنه في الكتاب والسنة، والتحذير منه، وبيان عظيم ضرره، وكبير خطره في الدنيا والآخرة، أو جاء ذم أهله ووعيد فاعله بالسخط والعذاب والخزي والعار، ودخول النار ونحو ذلك فهو من المنكر الذي ينهى عنه. (١)
قال ابن منظور: (وقد تكرر ذكر المعروف في الحديث، وهو اسم جامع لكل ما عُرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع) (٢)
وقال ابن الأثير: (والمنكر ضد المعروف وهو كل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه فهو منكر) (٣) .
_________
(١) تذكرة أولي الغير بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص ١٢-١٣ بتصرف.
(٢) لسان العرب، ٩ / ٢٤٠، وانظر النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير، ٣ / ٢١٦.
(٣) النهاية في غريب الحديث، ٥ / ١١٥.
1 / 12
وذكر ابن حجر عن أبي جمرة (١): (يطلق اسم المعروف على ما عرف بأدلة الشرع من أعمال البر، سواء جرت به العادة أم لا) (٢) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: (الأمر والنهي من لوازم وجود بني آدم، فمن لم يأمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله، وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، ويُؤمر بالمعروف الذي أمر الله به.. ورسوله، ويُنهى عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، وإلا فلا بد أن يأمر وينهى، ويُؤمر ويُنهى، إما بما يضاد ذلك، وإما بما يشترك فيه الحق الذي أنزله الله بالباطل الذي لم ينزله الله، وإذا اتخذ ذلك دينا: كان مبتدعا ضالا باطلا) . (٣)
وقال ابن حجر الهيثمي: (المراد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الأمر بواجب الشرع، والنهي عن محرماته) (٤) .
ويصف الإمام الشوكاني ﵀ أفراد الأمة الإسلامية بقوله:
إنهم يأمرون بما هو معروف في هذه الشريعة، وينهون عما هو منكر، فالدليل على كون ذلك الشيء معروفا أو منكرا هو الكتاب والسنة (٥) .
_________
(١) هو عبد الله بن أبي جمرة الأزدي الأندلسي، من علماء الحديث، من كتبه جمع النهاية اختصر به صحيح البخاري توفي بمصر، سنة ٦٩٥ هـ، انظر الأعلام للزركلي، ٤ / ٢٢١.
(٢) فتح الباري، لابن حجر، ١٠ / ٤٤٨.
(٣) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص ٤٢-٤٣.
(٤) الزواجر عن اقتراف الكبائر، ٢ / ١٤٦.
(٥) إرشاد الفحول، ص ٧٧.
1 / 13
ومن هذا يتبين لنا أن كون الشيء معروفا أو منكرا ليس من شأن الآمر والناهي، وإنما يعود ذلك إلى ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ، على فهم السلف الصالح لهذه الأمة من اعتقاد أو قول أو فعل.
1 / 14
القاعدة الثانية: العلم والبصيرة بحقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
من القواعد العامة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أن يكون الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر عالما بما يأمر به وبما ينهى عنه،.. يعلم ما هو المنهي عنه شرعا حتى ينهى عنه، ويعلم ما هو المأمور به شرعا حتى يأمر الناس به، فإنه إن أمر ونهى بغير علم فإن ضرره يكون أكثر من نفعه، لأنه قد يأمر بما ليس بمشروع، وينهى عما كان مشروعا وقد يحلل الحرام ويحرم الحلال وهو لا يعلم (١) .
ولأهمية العلم النافع أمر الله به، وأوجبه قبل القول والعمل، فقال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ (٢) .
وقد بوب الإمام البخاري ﵀ لهذه الآية بقوله: (باب العلم قبل القول والعمل) (٣) .
_________
(١) انظر محاضرات في العقيدة والدعوة، للدكتور صالح الفوزان، ٢ / ٣٢٨.
(٢) سورة محمد، الآية ١٩.
(٣) صحيح البخاري مع الفتح، ١ / ١٥٩، كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل.
1 / 15
وذلك أن الله أمر نبيه بأمرين: بالعلم، ثم بالعمل، والمبدوء به العلم في قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾، ثم أعقبه بالعمل في قوله: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾، فدل ذلك على أن مرتبة العلم مقدمة على مرتبة العمل، وأن العمل شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو مقدم عليهما، لأنه مصحح للنية المصححة للعمل (١) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ عند حديثه عن شروط الأمر والنهي: (ولا يكون عمله صالحا إن لم يكن بعلم وفقه.. وهذا ظاهر فإن العمل إن لم يكن بعلم كان جهلًا وضلالا، واتباعا للهوى وهذا هو الفرق بين أهل الجاهلية وأهل الإسلام فلا بد من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما، ولا بد من العلم بحال المأمور وحال المنهي) (٢) .
وأضاف يقول: وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف ورووه مرفوعًا ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد (لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيها فيما يأمر به، فقيها فيما ينهى عنه، رفيقًا فيما يأمر به، رفيقا فيما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه) (٣) .
_________
(١) انظر فتح الباري، ١ / ١٦٠، وحاشية الأصول الثلاثة، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص١٥.
(٢) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص ١٧.
(٣) المرجع السابق، ص١٨، وانظر مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة، ص ١٣١.
1 / 16
ويقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ﵀ مخاطبا الداعية إلى الله الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر: (أن تكون على بينة في دعوتك أي على علم، لا تكن جاهلا بما تدعو إليه ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ (١) .
فلا بد من العلم، فالعلم فريضة، فإياك أن تدعو على جهالة، وإياك أن تتكلم فيما لا تعلم، فالجاهل يهدم ولا يبني ويفسد ولا يصلح، وإياك أن تقول على الله بغير علم، لا تدع إلى شئ إلا بعد العلم به، والبصيرة بما قاله الله ورسوله والبصيرة هي العلم، فعلى طالب العلم وعلى الداعية أن يتبصر فيما يدعو إليه، وأن ينظر فيما يدعو إليه ودليله، فإن ظهر له الحق وعرفه دعا إلى ذلك، سواء كان ذلك فعلا أو تركا، يدعو إلى الفعل إذا كان طاعة لله ورسوله، ويدعو إلى ترك ما نهى الله عنه ورسوله على بينة وبصيرة) (٢) .
_________
(١) سورة يوسف، الآية ١٠٨.
(٢) الدعوة إلى الله ﷾ وأخلاق الدعاة، ص ٣٥، بتصرف.
1 / 17
وأكد فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين - حفظه الله - على أهمية العلم والبصيرة للداعية إلى الله الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر فقال: (وإن أول زاد يتزود به الداعية إلى الله ﷿ أن يكون على علم مستمد من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ الصحيحة المقبولة، وأما الدعوة بدون علم فإنها دعوة على جهل، والدعوة على جهل ضررها أكبر من نفعها، لأن الداعية قد نصب نفسه موجها ومرشدا، فإذا كان جاهلا، فإنه يكون ضالا مضلا، والعياذ بالله.
ثم قال: تأمل أيها الداعية إلى لله قول الله تعالى ﴿عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ أي على بصيرة في ثلاثة أمور:
١-على بصيرة فيما يدعو إليه بأن يكون عالما بالحكم الشرعي فيما يدعو إليه، لأنه قد يدعو إلى شئ يظنه واجبا وهو في شرع الله غير واجب، فيلزم عباد الله بما لم يلزمهم الله به، وقد يدعو إلى ترك شئ يظنه محرما وهو في دين الله غير محرم، فيحرم على عباد الله ما أحل الله لهم.
٢- على بصيرة من حالة المدعو، ولهذا لما بعث النبي ﷺ معاذا إلى اليمن قال له: «إنك ستأتي قوما أهل كتاب» ..الحديث (١) .
_________
(١) صحح البخاري مع الفتح، ٣ / ٣٥٧، كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا رقم ١٤٩٦، ومسلم ١ / ٥٠، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، رقم ١٩، عن ابن عباس ﵄.
1 / 18
٣- على بصيرة في كيفية الدعوة قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (١) .
وإذا كان تزود الداعية بالعلم الصحيح المبني على كتاب الله وسنة رسوله ﷺ هو مدلول النصوص الشرعية، فإنه كذلك مدلول العقول الصريحة التي ليس فيها شبهات ولا شهوات، لأنك كيف تدعو إلى الله ﷿ وأنت لا تعلم الطريق الموصل إليه، وإذا كنت لا تعرف شريعته فكيف يصح أن تكون داعية؟
فإذا لم يكن الإنسان ذا علم فإن الأولى به أن يتعلم أولا ثم يدعو ثانيا، قد يقول قائل: هل قولك هذا يعارض قول الرسول ﷺ «بلغوا عني ولو آية» (٢)؟
فالجواب: لا، لأن الرسول ﷺ يقول: «بلغوا عني» إذا فلا بد أن يكون ما نبلغه قد صدر عن رسول الله ﷺ، هذا ما نريده ولسنا عندما نقول إن الداعية محتاج إلى العلم لسنا نقول إنه لا بد أن يبلغ شوطا بعيدًا في العلم، ولكننا نقول لا يدعو إلا بما يعلم فقط، ولا يتكلم بما لا يعلم أ. هـ (٣) .
_________
(١) سورة النحل، الآية ١٢٥.
(٢) صحيح البخاري مع الفتح، ٦ / ٤٩٦، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني اسرائيل، رقم ٣٤٦١، عن عبد الله بن عمرو ﵁
(٣) انظر زاد الداعية، ص ٦-١٠، باختصار وتصرف.
1 / 19
١) التحقق من كونه منكرا:
والمنكر كل ما نهى عنه الشارع سواء كان محرما أو مكروها، وكلمة المنكر في باب الحسبة (١) تطلق على كل فعل فيه مفسدة أو نهت عنه الشريعة، وإن كان لا يعتبر معصية في حق فاعله إما لصغر سنه أو لعدم عقله، ولهذا إذا زنا المجنون أو هم بفعل الزنا، وإذا شرب الصبي الخمر كان ما فعلاه منكرا يستحق الإنكار، وإن لم يعتبر معصية في حقهما لفوات شرطي التكليف وهما البلوغ والعقل (٢) .
ويندرج في المنكر جميع المنكرات سواء من صغائر الذنوب أم من كبائرها، وسواء أكانت تتعلق بحق الله تعالى أم بحق خلقه. ولكن ما يجب معرفته أن الذي يملك الحكم على الشئ بأنه منكر أو غير منكر هو الشرع، فليس هناك مجال للأهواء أو العواطف، أو الأغراض الشخصية، ودور العلماء في ذلك إنما هو استنباط الأحكام الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية، والأصول والقواعد المستوحاة منهما، ومن ثم الحكم على هذا الأمر بأنه منكر أو غير منكر بالدليل القاطع والحجة البينة.
_________
(١) الحسبة: هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله. انظر الأحكام السلطانية للماوردي ص ٢٩٩ والأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء، ص ٢٨٤.
(٢) انظر أصول الدعوة للدكتور عبد الكريم زيدان، ١٧٩، بتصرف.
1 / 20