أما المفكرون، فلا يحاربون هذا التجسيد المادي للمعاني الذهنية والروحية؛ لأنهم يرونه ظاهرة من ظواهر الحياة الإنسانية لا غنى للناس عنها، بل لعلهم يرون في هذا التجسيد إبقاء على المعاني السامية في نفوس السواد؛ لأنه لا يستطيع أن يدرك هذه المعاني دون أن تلبس هذا الثوب.
هؤلاء على الأقل هم المفكرون أولو الأفق الفسيح في تصور الحياة وما تنطوي عليه، أما المتزمتون فلا يذهبون مذهبهم.
ألسنا قد ذكرنا ما كان من إنكار بعض المسلمين لعمل عثمان بن عفان حين زاد في رقعة مسجد النبي، وانتقل بعمارته من البساطة التي كان عليها في عهد النبي وفي عهد أبي بكر وعمر إلى بعض الفخامة والزينة؟
ألم نذكر كيف ضج المسلمون حين أدخلت بيوت النبي في مسجده رغم ما كان من إبداع عمر بن عبد العزيز في عمارة الحجرة النبوية وفي زينتها؟
هذا، ثم إن للفن الجميل مقامه السامي عند المفكرين، قبل أن يكون له مثل هذا المقام عند غيرهم. فإذا كانت الفكرة السامية حقيقة جديرة بالخلود، فالفن الذي يخلد هذه الفكرة في نفس الإنسانية جدير بأن يشجع وألا يحارب، وهو إنما يشجع لذاته. فإذا أدت آثاره إلى أن تندس إلى النفوس معان وثنية قامت الفكرة للقضاء عليها كما هو الشأن في الأديان التي قامت في الشرق الأوسط، فإنما تعلن الحرب على هذه المعاني الوثنية لا على الأثر الفني الذي تنسب له.
وهذا ما قام به المفكرون من قبل، وما يقومون به اليوم، وللجهود التي يبذلونها في هذا السبيل أثرها القيم لا ريب، هذا الأثر الذي كفل بقاء فكرة التوحيد في نفوس السواد، لا تطغى عليها الصورة الوثنية طغيانا يهدد كيانها أو يخشى خطره عليها.
صفحة غير معروفة